الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



       
أكسير الحيـاة



      التقيت وأنا أعبر شارع الشيخ حمزة إلى عيـادتى فى أمسية من أمسيات الخريف بصديقى لطفى .. وكان من رفاق الحداثة فى المدرسة الخديوية .. ولما دخلت مدرسة الطب كان هو قد ترك الجامعة واشتغل فى الصحافة .. وغمره تيارها وأصبحت لا أراه إلا قليلا .. وسر لما رآنى عرضا فى الطريق وسررت أنا أكثر منه .. ولكن شيئا على خديه وفى عينيه أشاع الرجفة فى قلبى .. سلم فى بشاشة وهو يقول :
     لى ستة شهور وأنا عازم على زيارتك فى العيادة ، وكل يوم أقول غدا .. تصور .. ولكن ما دمنـا قد التقينا الآن سأحـدد الميعاد فى هذه الساعة .. وسأجىء فى الخامسة بعد ظهر غد ..
     وجاء .. وأخذ يحدثنى عن حياته وعمله .. وكيف أنه يقضى الليل كله فى المطبعة بين الحروف والرصـاص .. ومنـذ شهور طويلة أحس بشىء فى صدره .. ويخشى أن يكون قد تمكن منه الداء ، ولولا أنه أحب فتـاة حبـا جارفا ويفكر فى الزواج منها .. ما اهتم بالأمر ، ولهذا يود أن يطمئن تماما قبل أن يشرك فتاة بريئة فى نفس المصير ..
     وابتسمت .. ونفيت له الخاطر الذى دار فى ذهنه ، ولكن نظرة فاحصة إلى وجهه جعلت قلبى يدق بشدة .. وقال ووجهه يضطرم :
     ـ هل يمكن أن أكشف الآن ؟
     ـ تفضل ..
     وادخلته الحجرة ..التى فيـها جهاز الأشعة .. وخلـع ملابسه ووقف بصدره العارى وراء اللوحة .. وسلطت الجهاز .. ورأيت تمزقا ظاهرا فى الرئة اليمنى .. وخيـطا أسـود كضربة موسى يبعـد عن التمزق بمقدار عشرة سنتيمترات .. واسود وجهى وتندت عيناى بالدموع .. فقد كانت الحـالة ميئوسا منها تماما ولا ينفع فيها أى علاج ..
     ولما خرج صاحبى من وراء الجهاز وارتدى ملابسه .. لم أشعل نور الغرفة وتركتها فى الظلام حتى أخفى تعبيرات وجهى ..
     ـ ماذا رأيت ..؟
     ـ صدرك سليم .. بل أقوى من صدر مصارع الثيران ..
     ـ لاشىء ..؟
     ـ لاشىء على الاطلاق ..
     فنظر إلىّ فى شك .. ولكن الفرحة هزته وأجرت الدم فى خديه ..
     ـ أتزوج إذن ..؟
     ـ توكل على الله .. هل حددت ميعاد الزواج ..؟
     ـ بعد خمسة شهور ..
     وقدرت حياته الباقية بثلاثة شهور على أوسع مدى .. وقدرت للفتاة النجاة .. وسألته :
     ـ والعروس قريبتك ..؟
     ـ لا .. إنها من المنصورة .. وأنا لا أراها إلا مرتين فى الشهر .. ولهذا أتعجل الزواج ..
     واسترحت لأنها لاتعيش فى القاهرة معه .. وأسفت على شبابه وصحته ..
     وكنت أحادثه وأنا أكتم انفجار الألم فى نفسى .. وأضغط على مخارج الحروف حتى لا أبدو ضعيفا أمامه ..
     وعندما بارحنى مسرورا بنتيجة الفحص كنت غـارقا فى دوامـة من الأسى ..
     وفكرت فى أن أتصل به بعد ذلك بأيام .. وأقول الحقيقة بطريقة مخففة .. أو أعرف عنوان الفتاة وأبعث لها برسالة ..
     ولكننى وجدت أن فى إخباره قسوة بشعة وتعذيبا لإنسان سيموت حتما .. وفى الاتصال بالفتاة قسوة مثلها ..
     وظللت أتعذب وأنا غير مستريح إلى كذبتى .. وكنت كلما دخلت على فتاة مريضة فى العيادة تصورتها خطيبة صاحبى .. وأنها جاءت تحمل إلىّ اللعنة والعذاب .. ومر عام وأكثر .. ونسيت الحـادث ونسيت صاحبى فى غمرة الحياة ..
                                    ***     
     ثم التقيت به عرضا منذ اسبوع وأنا داخـل إلى استراحة " شل " على الطريق الصحراوى وكان على حالة من الصحة .. والعافية أدهشتنى .. ولما جلسنا .. نشرب القهوة فى الاستراحة وجدت نفسى أوجه إليه هذا السؤال وأنا لا أشعر :
     ـ ألم تسافر إلى سويسرا فى العام الماضى ..؟
     ـ سويسرا لماذا .. اننى لم أبرح مصر قط ..
     ـ خيل إلىّ أننى رأيت شخصا يشبهك فى " بادن "
     ـ اننى مشغول بعملى ولا أستطيع السفر إلى الخارج ..
     وكنت أود أن أسأله :
     ـ ألم تدخل مصحة ..؟
     ولكننى " بلعت " هذا السؤال .. وأنا أنظر إلى سيدة رائعة الحسن تقبل علينا فى رشاقة حلوة .. وأدركت بعد أن قدمنى إليها .. ونظرت إلى عينيها وجهها .. سر نجاته من ذلك الداء ..
     فقد كانت " سميحة " زوجته تبتسم له ابتسـامة مشرقة فيها الأمـل والحــياة ..
====================================  
نشرت القصة فى صحيفة الأهرام فى 17|3|1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962




ذات ليلة من ليالى ديسمبر 

ذات ليلة من ليالى ديسمبر دخل شاب نحيل أسمر الفناء الخارجى لمحطة سيدى جابر واتجه إلى شباك التذاكر .. وكان الشباك خاليا ولم يكن هناك أحد آخر فى الردهة الطويلة .. وشعر الشاب بالراحة وتبدد فى نفسه الشعور بالخوف من رؤية الجموع الذى لازمه طوال الساعات التى انقضت ..
وسأل موظف التذاكر عن موعد القطار المسافر إلى القاهرة فى مثل هذه الساعة وارتد شاعرا بالمرارة لما علم أنه ليس بعد نصف الليل إلا قطار واحد .. وسيسافر بعد ثلاث ساعات .. وظل فى الفناء ونظره الثاقب يدور فى سقف المحطة وشبابيك التذاكر المغلقة .. وكان واحد منها هو المضىء .. ثم غادر المحطة من زاوية الطريق خافضا رأسه مسرعا إلى محطة الترام غافلا عن كل من يمر بجواره من العابرين .. وكان هناك أربعة شخوص يقفون فى المحطة منتظرين الترام الذاهب إلى باكوس .. ولا أحد ينتظر من ناحية الطريق المضاد ..
وكانت صور الاعلانات عن الأفلام التى تغطى الجدران المحيطة .. تبعث الاحساس بملاحقة النساء المارات فى الطريق .. وكان الفيلم البارز فى عرض الأسبوع لصوفيا لورين .. وقد كشفت عن ساقيها فى وضع مثير ..
ويشعر إسماعيل بهزة وهو يتأملها نصف عارية .. واستدار نصف دورة فى الطريق .. وأحس برزاز المطر فاحتمى تحت " باكيه " حانوت لايزال ساهرا .. ووقف فى مخبئه يرقب الميدان الواسع المتعرج فى الهبوط إلى الشارع الكبير والمياه تبلل الأرض وكأنها تكسوها بالطلاء الأسود .. والسيارات تمضى فى مثل خطف البرق .. وأنوارها القوية تغشى الأبصار ..
ولاحت له جدران المحطة الحجرية فى الليل الساكن داكنة ومهجورة ولا تدل على وجود الحياة فى داخلها على الاطلاق ..
وتبدى له نفر من المسافرين وعمال التراحيل دخلوا إلى فناء الدرجة الثالثة من الباب الواسع وتكوروا هناك ليناموا فى الدفء مبتعدين عن المطر والرياح ..
وكان هناك شىء فى الساحة عن يمينه لم يلتفت إليه قط من قبل ولم يقع تحت بصره .. مقهى صغير راقد فى حضن الميدان الواسع وضائع فيه .. وألفاه فى قلب الليل وسكونه حيا فى القطاع كله ومضيئا بعد أن ماتت المحطة .. كانت أنواره الزاهية تسطع ومناضده الرخامية تلمع فى الليل خلال المطر ..
واتخذ سبيله إليه ليحتمى من المطر الذى ازداد وأخذ ينهمر بشدة ..
وكان المكان دافئا برغم البرودة فى الخارج .. وطلب كوبا من الشاى وجلس يشربه ويدخن ..
وشعر بعد دقائق بما يجرى فى داخل المقهى .. كان بمنزله محطة للسيارات القادمة من القاهرة والذاهبة إليها عبر الطريق الزراعى ..
وأحس بوجود شاب سريع الحركة يقوم بعمل مريح .. يلتقط الزبائن للعربات المسافرة ويتم ذلك فى صمت وسرعة ..
وكانت حركة السفر فى هذه الليلة لشدة البرد والمطر قليلة جدا بالقياس إلى الليالى السابقة ..
ومع أنه تحركت أمام إسماعيل سيارة أجرة انطلقت إلى القاهرة .. فإنه تردد فى ركوبها .. لأنه ليس متعودا الركوب مع الغرباء .. وكان يقدر احتمال التوقف فى الطريق لعطل يصيب السيارة لأنها تبدو متهالكة ..
وشعر بالجوع فتلفت حواليه فلم تعثر عيناه على دكان يبيع الطعام ..
ووجد فى داخل المقهى شخصا يبيع السجائر والحلوى للزبائن فنهض واشترى منه لفة من البسكويت وأحس وهو يقضمها بأنه سد حاجة معدته ..
ووضع أمامه " الجرسون " كوبا آخر من الشاى فأخذ يرشفه وهو يرسل بصره إلى بعيد ..
وسأله الشاب الذى كان يذهب ويجىء أمام المقهى :
ـ الأفندى مسافر ..؟
ـ ولماذا تسأل ..؟
ـ لأنه توجد عربة جاهزة ويتوقف سفرها على راكب واحد ..
ـ ماشية على طول ..؟
ـ على طول ..
ونهض إسماعيل ومشى وراء الدليل الذى أركبه السيارة وكانت واقفة فى زاوية من الشارع ..
ولكنها لم تتحرك على التو كما كان يتصور .. وأخذ السائق يجادل الراكبين فى الأجرة .. وقد أصروا على أن يدفع كل راكب منهم ستين قرشا فقط لا يزيدونها وكان السائق يطلب الثمانين ..
وظلوا فى جدل حتى ترك السيارة اثنان من الركاب .. وأقسم السائق ألا يتحرك ..
وخرج إسماعيل من السيارة .. وعاد إلى المقهى ..
وانقضت فترة صمت .. وبدت حركة فى داخل المقهى .. كان الجرسون فى خلالها يطوى بعض الكراسى .. وخفت الضوء .. ويئس إسماعيل .. من تحرك السيارة بعد أن تركها معظم الركاب ..
فاتجه إلى محطة ترام الرمل وقد قر قراره على أن يعود إلى بيته ويركب أول قطار مسافر فى الصباح ..
وكان وحده الواقف فى محطة الترام .. والساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل والبرد يلفح الأبدان .. وتلفت .. فوجد امرأة فى معطف بنى .. تروح وتجىء أمامه على الرصيف .. وفى كل مرة وهى تحاذيه كانت تقترب أكثر وترميه بنظرة آسرة ..
ورأى من نظراتها إليه أنها تناديه ولما وجدته خجلا لا ينطق ولا يتحرك سألته عن الساعة .. مع أن الساعة كانت فى يدها .. وهناك ساعة كبيرة فى واجهة المحطة .. وكان السؤال سبيلا لأن يفتح فمه المغلق ويحادثها ويقترب منها .. ورآها جذابة وجميلة ولا تزال فى نضارة الشباب .. ومازالت تعاطيه الكلام الحلو حتى رضى أن يرافقها إلى بيتها ..
وكان فى الواقع فى حاجة إلى مثل هذه الرفقة بعد الفترة العصيبة التى مرت به ومزقت أعصابه طوال النهار ..
كان يشتغل سكرتيرا لمدرسة إعدادية ويصرف المرتبات للمدرسين ..
وعندما أخذ فى صرف مرتبات هذا الشهر كالمعتاد .. وجد أربعين جنيها ناقصة من المبلغ .. ولم يكن يدرى أسرقت منه فى المدرسة أم سقطت منه فى البنك وهو يتناول النقود من الصراف .. ولما علم الناظر بما جرى أمهله يوما واحدا ليدبر المبلغ .. وإلا سيضطر لتبليغ النيابة .. ولم يجد إنسانا فى الإسكندرية يقرضه المبلغ لأنه كان حديث العهد بالعمل فيها ولا يعرف أحدا .. وحار ماذا يفعل .. وأخيرا قرر السفر لخاله عبد الصبور فى الفشن ليأخذ منه المبلغ ..
ووجد أن هذا أسلم الحلول واتجه إلى محطة سيدى جابر فى الليل بعد أن ضاع منه النهار وجزء من الليل فى البحث عن المبلغ .. ولما انتوى السفر لم يجد قطارات مسافرة .. ولم تسافر السيارة فارتد إلى محطة الترام .. والتقى بهذه المرأة وهو فى حالة من التعاسة تجعله فى حاجة إلى مثلها فإن الأحزان تلهب الحواس .. وركب معها الترام إلى الشاطبى وصعدت به فى عمارة كبيرة قريبة من البحر .. ولم يكن البواب على الباب لما دخلا .. وصعدت معه بالمصعد إلى الدور الخامس ..
ووجد نفسه فى شقة أنيقة وأثاثها جديد وفى غاية من التنسيق .. وكان يريد أن يتأكد بأذنيه وعينيه من أنها وحيدة حقا ولا أحد غيرها فى الشقة .. واستيقن من ذلك بعد أن أدخلته الغرف الثلاث ورأى محتوياتها وأثاثها ..  
وكانت غرفة النوم تحتوى على سرير وطاولة .. ودولاب ومائدة أنيقة للزينة فوقها مرآة بيضية .. ورأى فيها وجهه ووجه المرأة .. كان وجهها طويلا أبيض والشفتان مكتنزتين والعينان دعجاوين براقتين .. وعلى الخد الأيمن غمازة رقيقة فى رقة صوتها ونعومة بشرتها .. ولم يكن عمرها يجاوز الثلاثين .. وتركته المرأة وحده فى الغرفة .. ولكنه كان يحس بكل تحركاتها فى داخل الشقة .. خرجت من الحمام إلى المطبخ ثم عادت إليه ..
وكان حسه يناديها .. كان جسمه قد تعب وأعصابه قد تحطمت مما حدث له فى النهار وشعر بحاجته إلى الراحة ..
وسمع صوت أقدامها وهى تقترب خفيفة مياسة .. ودخلت مبتسمة ..
كانت ابتسامتها مفعمة بالمودة .. دخلت تحادثه وفى فمها سيجارة وكانت فى مخيلته صورة لشابة التقى بها من شهر فى " سوق الخيط " وأثارت فى نفسه احساسا ممتعا وعارما ولكنه عجز عن اللحاق بها ..
وتركته المرأة مرة أخرى .. وغابت فى الداخل .. وسمع حركة فى المطبخ .. وحدث نفسه .. بأنها ربما تتعاطى شيئا أو دواء .. أو ربما ذهبت لتدخل شخصا من باب الخدم ليخنقه .. فربما تصورت أن فى جيبه مبلغا كبيرا من المال ..
وظل متيقظا .. يحدق فى الباب ..
وفيما هو يصغى سمع حركتها وشعر بالخوف .. كان الصمت مطبقا على الشارع والحى كله .. وقد أثار هذا الصمت جوا من الرعب أفزعه ..
وأحس بالبرد .. فضم أغطية الفراش على جسمه وظل متيقظا ينتظر ..
ورفع نظره إلى السقف فرآه مطليا باللون الأخضر الداكن .. وعلى الحيطان صور الممثلات والممثلين فى السينما وصورة لها مكبرة بالفحم ..
وجاءت تتهادى أخيرا وخلعت الروب وبقيت فى قميص نومها .. وأخذت تتزين أمام المرآة وخلعت الدبابيس من شعرها والحلى التى كانت تلبسها .. وفتحت درجا صغيرا .. ولاحظ من مكانه أنه ملىء بالأوراق المالية الكبيرة المبعثرة دون نظام ثم جواهر زاغ لها بصره ..
وردت الدرج سريعا وانتصبت مرسلة شعرها المحلول وراء كتفيها .. وفكر كيف تضع هذه النقود فى بيتها وهى وحيدة .. ألا تخشى السرقة .. ألا تخشى أن يرى النقود كما رآها هو الآن واحدا آخر فيوسوس له الشيطان وقد يقتلها .. ألا تخشى حتى البواب لمجرد التصور أنها تكنز مثل هذا المبلغ .. طافت هذه السوانح فى خاطره ..
وراح يحدق فى جسدها النحيل الطويل وهى تتحرك برشاقة على البساط .. وتقترب .. ثم خففت الضوء ونامت ..
كانت جميلة ورقيقة وهادئة فى نومها .. وقد أسف لحياة الوحل التى تعيشها .. ولم تفكر قبل أن تتردى فى أن تختار مهنة شريفة وتعيش من كدها بعرق الجبين ..
وراقب السكون من حوله .. كان قبل أن ينام يشعر بحركة الأسانسير فى المبنى .. ولكنه الآن توقف تماما وماتت كل حركة تدل على الحياة فى العمارة وفى الحى كله .. وكان يحس وهو جالس وحده فى الطابق الخامس .. بأنفاس البحر وبالموج وهو يتحرك هناك وإن لم يره ..
ودفعه الفضول لأن يرى كل شىء فى الغرفة .. فأشعل المصباح كما كان .. ونظر إلى الدولاب .. والكوميدينو .. وأدوات الزينة .. والعطر الفواح .. الذى تضمخ به جسدها والمساحيق التى تضعها على شفتيها وخديها والزيت الذى تمسح به شعرها ..
وكانت نائمة مطمئنة ولا تحس بعينيه وحركاته .. وعجب لأنها نامت واطمأنت له الاطمئنان كله ..
ووقعت عيناه على الدرج الذى وضعت فيه نقودها وجواهرها .. وأحس برعشة وأخذ يحدق فيه .. وكانت فى رأسه فكرة خاطفة ثم تملكته .. لماذا لا يأخذ من هذا الدرج المبلغ الذى هو فى حاجة إليه .. ثم يرده إليها بعد ذلك ويعترف لها بما فعل .. وهى لن تشعر بشىء مما حدث .. وتذكر أنها أغلقت الدرج بالمفتاح .. ونهض بخفة وانزلق عن الفراش .. ولما اقترب من الكوميدينو وبحث بعينيه وجدها قد وضعت المفتاح خلف تمثال صغير .. وتقدم إليه مخفيا وقع أقدامه .. وكاتما أنفاسه .. وفى اللحظة التى أخذ يمد فيها يده ليتناول المفتاح سمع صوتها فتسمر فى مكانه .. كانت قد استيقظت ورأته واقفا .. واستدار إليها على الفور مظهرا الهدوء والابتسام .. ولكى يغطى حركته سأل أيستطيع أن يستحم ..
فنهضت سريعا برشاقة ولبست الروب .. ووصلت إلى الحمام وأشعلت السخان ..
ولما دخل إسماعيل الحمام وأغلق على نفسه الباب .. ورأى البانيو الكبير المطلى باللون الأزرق والسخان ـ ولم يكن قد دخل مثل هذا الحمام فى حياته ـ وتذكر أنه رأى مثل هذا الحمام فى فيلم سينمائى ..
ولما غاب عنها ودخل الحمام أحست بالوحشة .. وعرفت أنها أحبته وأحبته حبا غريبا وقويا من أول لقاء ووجدت بدلته أمامها على الكرسى فلمستها بأناملها بخفة وأخذت تمسح عليها .. ثم لاحظت أنها غير نظيفة فحملتها على الفور إلى الصالة لتنظيفها وأخرجت المناديل والأوراق .. وسقطت صورته على المائدة .. صورة صغيرة مما يستعمل فى الأبونيهات والبطاقات .. فتأملتها بحنان ورأت أن تحتفظ بها كتذكار .. وكتبت عليها بخطها " لقاء سعيد ـ أول ديسمبر " .. واحتفظت بالصورة فى جيب روبها ..
ظل إسماعيل وهو فى الحمام يفكر .. وبدت له الفكرة بسيطة وسهلة أيسر من كل شىء آخر .. لما رأى البانيو الكبير .. وقاس بنظراته طوله وطول المرأة ..
ولما أدار الصنبور .. كان قد رسم الخطة باحكام واستحم وخرج من الحمام ليرتدى بدلته ..
وسألته وهو يلبس :
ـ لماذا تستعجل .. الوقت .. الدنيا ليل ..؟
ـ سأسافر فى أول ديزل فى الساعة السادسة ..
ـ بدرى .. الساعة لا زالت الخامسة ..
ـ ربما وجدت سيارة أجرة .. أود لو ألحق بقطار الصعيد من مصر .. أنا ذاهب الفشن ..
ـ لعمل هام ..؟
ـ أجل .. هام جدا ..
ـ هل أنت تاجر ..؟
ـ أجل ..
ورأى من الأوفق أن ينكر عمله الحقيقى ..
ـ وهل ستأتى إلى الإسكندرية كثيرا ..
ـ كثير جدا .. مرتين فى الشهر على الأقل ..
ـ وهل أراك فيهما ..؟
ـ طبعا .. فليس هناك ما يمنعنى أيتها الجميلة ..
ـ هل لابد من الاطراء ..؟
ـ أبدا إنى أقول الحقيقة ..
ـ شكرا ..
وسأل :
ـ منذ متى تسكنين هنا ..؟
ـ منذ خمس سنوات ..
ـ وبدأت هكذا ..؟
 ـ كنت فتاة صغيرة ويتيمة .. فى مصنع لعلب الكرتون فى محرم بك .. وأراد بى سوءا صاحب المصنع .. فصددته فألقى بى فى عرض الطريق ..
ـ ولم تجدى عمل آخر ..؟
ـ لا .. الكل يطلب نفس الشىء .. والرجال كما تعرف خنازير ..
ـ ألا تفكرين فى طريقة أخرى للعيش ..
ـ لقد غرقت فى بحر الخطيئة وانتهى الأمر وعندى المجوهرات والمال فلماذا أفكر الآن فى التغيير ..
ـ إن هذا كله لا يدوم .. والشباب محدود بميقات معلوم ..
ومتى ذهب الشباب فأنت تعرفين المصير ..
ـ أرجو ألا تحدثنى عن شىء من هذا أرجوك ..
وأغمضت عينيها ..
ـ شقتك جميلة ..
ـ صحيح ستأتى مرة أخرى ..؟
ـ بالطبع ..
ـ تعدنى بهذه الزيارة ..
ـ أعدك بالتأكيد ..
وفى الصالة أخرج لها كل ما فى جيبه من نقود .. وكور الأوراق فى يدها وسألها :
ـ هل تطلبين شيئا آخر ..؟
ـ شكرا لقد أعطيتنى ما فيه الكفاية وكنت رقيقا ومهذبا .. وهذا ما أطلبه من الرجل ..
ومشت أمامه فى الردهة الطويلة المعتمة المفضية إلى الباب الخارجى ..
ووجد الفرصة سانحة لتنفيذ خطته .. فباغتها من الخلف وأطبق على عنقها بمخلب من حديد .. واستدار وواجهها وما زال يضغط على عنقها ويضغط حتى جحظت عيناها ولفظت أنفاسها .. وسقطت .. وتركها ممددة فى الردهة .. ثم دخل سريعا إلى غرفة النوم وجمع كل ما فى الدرج من مال وجواهر وحشا بها جيوبه ..
ورجع إلى المرأة المخنوقة وهو ينتفض رعبا وحاول حملها إلى البانيو فلم يستطع .. فأدرك أن الانسان بعد أن يموت .. يثقل ويثقل ويصبح جسمه ثقيلا جدا وعرف لماذا يحمل النعش أربعة من الرجال ..
واضطر أن يسحبها سحبا حتى أدخلها الحمام .. وألقاها بجانب البانيو وأخذ يعريها من ملابسها وفتح أنبوبة السخان وجعل الغاز يتسرب إلى الخارج .. ثم أغلق باب الحمام سريعا ..
وخرج من باب الشقة بعد أن أغلقه وراءه مسرعا إلى الطريق ..
ولمحه البواب وهو يخرج من باب العمارة .. ولكنه لم يعره التفاتا ..
وركب تاكسى وانطلق إلى بيته فى الابراهيمية ..
***  
ولما دخل شقته وأغلق بابه وجد المسألة انتهت فى مثل السهولة التى تمت بها .. وأخرج كل شىء من جيوبه ووضعه فى الدولاب ..
ونظر إلى يديه فوجدهما كما هما ولا يحملان أى أثر للجريمة .. ليس فيهما ما يدل على أنهما ارتكبا جرما منذ ساعة ..
وجلس يدخن .. ورأى أن من الأحسن أن يبقى فى البيت طول اليوم .. ويعتبر نفسه مسافرا كما قال للناظر ..
وفى اليوم التالى يذهب إلى المدرسة ويقدم المبلغ كأنه عاد به من الفشن ..
وظل فى البيت .. بين نوم ويقظه وفى ساعات اليقظة بدأ يتسرب إليه القلق والخوف واشتد به القلق حتى عصف بكيانه وأخذ يجسم له فعلته .. فأطفأ النور .. وأغلق الباب .. وذهب إلى الفراش .. وبقى فيه إلى الصباح التالى ..
واستيقظ متأخرا فنهض على عجل ولبس ملابسه .. وأخذ مقدار المبلغ الذى ضاع منه ووضعه فى جيبه وخرج مهرولا .. وركب كعادته ترام الرمل إلى المدرسة وكان الراكب الذى أمامه قد نشر جريدة الأخبار بعرض الصفحة ورأى صورة القتيلة أمامه .. وبجانبها صورته هو .. فذعر ..
ومد رأسه فى لهفة ليقرأ ما كتب تحت الصورة وقبل أن يرجع إلى مكانه مال بجسمه كله وسقط على أرض العربة مغشيا عليه وتجمع عليه الركاب ..
وسقط شعاع طويل من الشمس على وجهه فزاد ملامحه وضوحا .. ووقف راكب وراء الجموع يتأمله فى صمت .. ثم تذكر أين رأى هذا الوجه ..




=======================  
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 1420 بتاريخ 10/1/1962 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
===================== 





العازب


حدث فى ليلة شم النسيم وكنت أجلس مع صاحب لى فى مقهى بحى قصر النيل .. أن فكرنا معا فى جولة طويلة على النهر .. فلما تخطينا كوبرى الجلاء وبلغنا حدود الجيزة .. طاب لنا أن نواصل السير إلى الهرم ..
وكانت الرحلة فى الواقع اختبارا لقوة أبداننا ومتعة ذهنية أتاحت لنا أن نشاهد من الجمال الساكن ما لايمكن أن نراه بحال لو ركبنا سيارة .. وفى العودة أخذنا تاكسى مع آخرين إلى الجيزة .. وافترقت عن صاحبى عند أول كوبرى عباس فقد واصل هو السير إلى بيته فى العجوزة ..
ولكى يكون السير أروح للنفس وأمتع .. اتخذت طريق النيل ..
وتحت الأشجار الضخمة الصامتة التى فى محازاة النهر رأيت فتاة وحيدة تتمايل فى مشيتها .. وتقطع الطريق فى تثاقل شديد ..
فلما اقتربت منها عرفت أنها ثملة تائهة فى الليل .. وكنت أود أن أتركها للظلام لولا أننى تبينت أنها صغيرة لم تتجاوز العشرين .. وأن مظهرها لا يدل على أنها من بنات الليل ..
وجذبنى جمال وجهها فتتبعتها عن كثب .. ثم رأيتها تجلس على كرسى حجرى فى الطريق .. فوقفت أمامها حتى رأيت رأسها يسقط على صدرها .. كأنه انفصل عنها .. ولما هززتها برفق وجدتها قد استغرقت فى النوم .. وعجزت تماما عن ادراك ما حولها وكل ما يحدث لها ..
وفكرت فى أن أبحث عن شرطى فى المنطقة .. ولكننى أشفقت على الفتاة مما قد تتعرض له .. من هوان ..
ومر بجوارى تاكسى ودون تفكير فى الجهة التى أتجه إليها .. أركبتها فيه .. وركبت بجوارها ..
فلما اقتربنا من كوبرى الجلاء أمرت السائق أن يواصل السير فى شارع النيل .. لأن عقلى كان قد استقر على أن أحمل الفتاة إلى بيتى ..
***  
ولما دخلنا البيت لم تكن على استعداد لأن أسقيها فنجانا من القهوة .. أو أعطيها أى شىء يمتص من رأسها الكحول .. فحملتها بملابسها .. إلى سريرى وأضجعتها فيه .. وخلعت عنها حذاءها .. وجوربها وبلوزتها ومشابك شعرها .. وهى لا تحس بحركة يدى .. وتركت لها الجونلة التحتية وقميصها ..
ورأيت وجهها ينضح بالعرق فمسحته بفوطة مبلولة .. ومسحت جيدها .. وما خلف أذنيها .. وجعلتها هذه الحركة تفتح عينيها بتثاقل وتنظر إلىّ فى استرخاء ثم عادت وأغمضتهما .. وراحت فى سباتها ..
وكان تحتها مرتبة أخرى .. وكنت أفكر فى أن أضعها على الأرض لأنام عليها ..
ولكننى وجدت أن هذه الحركة ستزعجها وتقلقها فتركت المرتبة فى مكانها وفرشت لحافا .. فى الفراندة ونمت عليه ..
وفى الصباح استيقظت قبلها .. وكان الناس قد انطلقوا فى الشوارع من مطلع الشمس يشمون النسيم .. وأخذ الأطفال يفرقعون البمب ويصيحون ويلعبون .. ولكن هذه الحركة الصاخبة لم توقظ الفتاة .. واضطررت لأن أبقى فى البيت بجانبها حتى الساعة الحادية عشرة صباحا .. حيث بدأت تفتح عينيها ..
ونظرت فى استغراب إلى وجهى وإلى الحجرة التى تنام فيها .. وإلى كل شىء حولها .. ثم فاضت دموعها وأخذت تنشج ..
*** 
وتركتها حتى جفت عبراتها فحملت لها فنجانا من الشاى .. ورفعت أهدابها وهى تنظر إلى الفنجان وسألت :
ـ أنا فين ..؟
ـ فى شارع النيل .. وكوبرى الجلاء قريب منا جدا ..
وتناولت شفطة من الفنجان ورفعت أهدابها مرة أخرى ..
ـ حضرتك عايش .. وحدك ..؟
ـ أجل ..
ـ وبتعمل الشاى لنفسك ..؟
ـ عندى خادم .. ولكننى أعطيته أجازة اليوم ليشم النسيم ..
ونظرت إلى فراشها .. وإلى بلوزتها المعلقة بجوارها .. وإلى وجهى .. نظرت إلى هذا كله بسرعة .. كأنها تقرن هذه الأشياء بعضها ببعض ..
وجاوبت أنا على هذه النظرة بنظرة صامته وعادت هى تشرب الشاى .. ثم قالت :
ـ بيتك جميل ..
ـ أعجبك ..؟
ـ واضح فيه الجمال .. كأنما نسقه فنان ..
ـ هذا اطراء من حسناء .. تعرف مواقع الجمال وأعتز به ..
وفرغت من شرب الشاى ..
وسألت :
ـ وحضرتك قابلتنى فين ..؟
ـ فى الشارع .. نفس الشارع .. من الناحية الأخرى ..
وكأنما صفعتها على خدها بغتة .. فقد اصفر وجهها اصفرارا شديدا ..
وجاهدت وهى تقول :
ـ ولم يكن معى سمير ..؟
ـ لا أعرف أحدا بهذا الاسم ..
قلت هذا ببحة فيها بعض الانفعال .. فقالت متعطفة :
ـ آسفة .. لقد أزعجتك .. بأسئلتى ..
وصمتت مدة وعيناها تتجولان فى المكان ثم وجدت نفسها تسألنى :
ـ لقد شاهدتهم بالطبع وهم يلقوننى من السيارة .. هؤلاء الأندال ..
وشعرت بأنها تمزق الصورة الجميلة التى رسمتها لها بخيالى وتلطخها بالسواد .. شعرت بالخيط الذى كان يمسكنى بها ويجعلنى أعطف عليها .. قد انقطع فجأة .. وبدت أمامى .. فتاة ضائعة تافهة مبتذلة ..
وغصصت بريقى وأنا أقول بمرارة :
ـ لا .. لم أرك وأنت نازلة من السيارة .. وإنما رأيتك جالسة على كرسى حجرى فى شارع النيل .. وراء حديقة الحيوان وكنت نائمة تماما ..
ـ نائمة .. ياربى .. نائمة فى الشارع ..
ـ فى عز النوم ..
ـ سقانى الأندال الخمر .. ثم .. وبعد .. القونى فى الشارع ..
ولم أقل لها شيئا .. كان هناك شىء يتمزق بقسوة فى أعماقى .. وانمحت الشفقة الفطرية التى لازمتنى أولا .. لأنى كنت أجهل السبب فى وجودها هناك فى الليل .. ولا أعرف شيئا عنها .. وحل محلها شعور من الامتعاض الممزوج بالمرارة .. عندما بدأت تلقى الأضواء على نفسها التعسة ..
ولم أستطع قط أن أغفر لها زلتها .. أنها سارت على قدميها .. إلى هذا المنحدر .. وغاصت بنفسها فى الوحل .. فلماذا أشفق عليها وأغفر لها ..
*** 
ونهضت من الفراش وهى تنظر إلى ثوبها .. ثم احمر وجهها لما رأتنى أرقبها ..
وشعرت بعد أن اغتسلت وجلست أمام المرآة لتمشط شعرها .. بأنها أصبحت تضايقنى وضايقتنى أكثر أنها أطالت من الوقت الذى أخذته فى زينتها ..
ولما رأتنى أسوى الفراش الذى نامت عليه .. أسرعت وأمسكت الملاءة من يدى .. وطوت المرتبة ..
ونشرت المخدات والملايات على حافة الشرفة ..
والواقع أن خروجها إلى الفراندة .. ضايقنى كذلك لأننى لم أكن أحب أن تظهر أمام الجيران .. لا لأنهم لم يشاهدوا من قبل فتاة فى شقتى .. وإنما لأن هذه الفتاة بالذات لم أكن أحب أن تظهر أبدا .. أمام الجيران ..
ولم يكن هذا لأن ملابسها لا تليق أو لأن شكلها يوحى بأنها من بنات الهوى .. أبدا كانت على العكس أرستقراطية المظهر فى غاية من الأناقة ..
وإنما كان السبب لأنها كانت ضائعة وحديثها عن السيارة والرجال الذين كانت معهم جعلنى أنظر إليها بتقزز ..
وكنت أود أن أكتفى بفنجان الشاى الذى شربته ولا أقدم لها الافطار .. ولكن لما خطر ببالى أنها قد لا تذهب إلى بيتها .. بعد أن تخرج من عندى وقد لا تستطيع العودة أبدا إلى هناك .. أشفقت عليها مرة أخرى .. ودخلت المطبخ لأقلى بيضتين .. مع قطعة من الجبن .. وسررت لأنى وجدت هذه الأشياء فى المطبخ فلم أكن أحب أن أنزل إلى السوق وأشترى شيئا أبدا .. وأتركها وحدها فى بيتى ..
وقدمت هذا على المائدة ووضعت سرفيسا واحدا ..
وقلت لها :
ـ تفضلى ..
فجلست .. ثم سألتنى :
ـ وحضرتك .. ألا تأكل ..؟
ـ أنا أكلت مبكرا .. وأنت نائمة ..
فأكلت قليلا .. ثم رفعت أهدابها وقالت وهى تحدق فى وجهى ..
ـ إنك لم تفطر .. ربما .. لاتحب أن تجلس معى .. وتأكل معى .. ولماذا نمت بجوارى إذن ..؟
ـ لم أنم بجوارك .. لقد نمت فى الفراندة ..
وكأنما لسعها سوط .. فنظرت إلىّ جافلة ..
ـ لم تنم بجوارى ..؟
ـ أبدا .. ولم أقترب قط ..
فابيض وجهها وسألت :
ـ ولماذا جئت بى إلى هنا إذن ..؟
ـ لأنك كنت ضائعة فى الشارع .. كالكلب الضال .. واغفرى لى هذا التشبيه ..
ـ ولكن الكلاب الضالة .. يوضع لها السم .. فهل وضعت لى السم فى هذا الطعام ..؟
ورفعت يدها عن الطعام وأخذت تبكى .. وسألتنى من خلال عبراتها :
ـ لماذا لم تنم بجوارى ..؟ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس .. أنت جميلة جدا .. بل فاتنة .. وفيك من الصفات ما يغرى كل رجل .. ولكننى كنت فى الواقع .. مشيت إلى الهرم .. وكان الحر شديدا فى داخل الغرفة فرأيت ألا أضايقك بأنفاسى ..
ـ مشيت إلى الهرم ..؟
ـ أجل .. مشوار طويل .. ومتعب ..
ـ ولكن ليس هذا هو السبب فى الحقيقة ..
ـ ما هو السبب إذن ..؟
ـ أنك تصورت .. أننى .. ما دمت قد ركبت سيارة مع شبان .. فأنا ..
ـ لم يخطر ببالى هذا قط .. ولم أفكر فيه .. ولماذا لا يكون هؤلاء الشبان اقرباءك مثلا ..
ـ فى الواقع .. ليسوا أقربائى .. ولكن سمير خطيبى .. أنه موظف معى فى البنك وقد خطبنى من مدة طويلة .. وكان مثال الأدب ولكنه تغير ليلة أمس .. وانقلب إلى حيوان .. بعد أن سكر هو وأصحابه .. وأسكرونى معهم .. وكان يود أن يقبلنى فى السيارة .. ويجعل أصحابه يقبلوننى أيضا .. تصور .. هذه الندالة .. وقاومتهم ..
ـ هذا واضح ..
ـ ألا تصدقنى ..؟
ـ بالطبع .. أصدقك .. وما دمت ثملة فالمقاومة حتمية ..
ـ هل تسخر منى .. ومن ضعفى ..؟
ـ أننى يا سيدتى من بيئة .. تحمل المرأة كل الأوزار وتعفى الرجل على طول الخط .. وأنت فى الواقع المسئولة أولا وآخرا .. إن كان حدث شىء مشين ..
ـ لم يحدث ما يشين ..
ـ عال .. ثم عال ..
ـ يبدو لى أنك لا تصدقنى ..
ـ ماذا أقول عن فتاة فى سن العشرين متعلمة وتقبل أن تركب مع ثلاثة أو أربعة من الشبان وتسكر معهم .. أن هذا لا يحدث فى هوليود .. ولا فى غابة بولونيا .. ولا مع إنسان الغاب .. ولا مع الحيوان .. إن الحيوان يقاتل .. ليحوز أنثى واحدة .. ويظفر بها وحده .. يقاتل الآخرين بكل ما فى عضلاته من قوة .. ولكنك ركبت مع شاب تقولين عنه أنه خطيبك وقد رأى هذا الخطيب أن يشرك فى ثغرك ثلاثة آخرين .. أنه ليس بإنسان قطعا أنه تيس وخنزير .. قذر ..
ـ ولماذا تقول لى هذا الكلام ..؟ وبأى حق ..؟
ـ لأنى حملتك إلى هنا مدفوعا بالخير الذى فى كل إنسان .. ولأن جمالك خسارة فى الواقع .. ويحزننى أن تمرغيه فى الوحل .. يحزننى جدا ..
ـ ولماذا تتصور أننى أمرغه فى الوحل .. وبأى حق .. بأى حق .. من فضلك .. كفاية ..
ـ قد تمرغ فعلا ..
ـ كيف عرفت .. هل أنت طبيب ..؟
ـ أنا لا أفكر فى المسألة من الناحية العضوية أو المادية البحتة كما تتصورين .. وإنما أقصد أن روحك تلوثت .. أو ضاعت وأنصحك إذا كنت متزوجة ..
ـ إذا كنت متزوجة ..؟
ـ نعم .. أنصحك .. إذا كنت متزوجة أن تذهبى إلى زوجك .. وتعترفى له بكل ما حدث وتطلبى منه الطلاق فى الحال .. وإذا كنت مخطوبة حقا إلى هذا التيس .. فلا تقابليه بعدها أبدا لأنه شر أنواع الحيوان ..
ـ وماذا أفعل .. هل أبحث عن شاب آخر ..؟
ـ لا تفكرى فى الزواج أبدا .. حتى تتطهرى من الأوزار ويبدو لى أنك لن تتطهرى ..
وكأنما لطمتها لطمة قوية فنظرت إلى الباب الخارجى ثم عادت وخرجت إلى الشرفة وأطلت منها على الطريق ..
وبقيت فى مكانى صامتا .. ولم أكن أحب أن تخرج ويراها الجيران .. فى شرفتى .. ويراها الناس فى الشارع ..
وعادت تسألنى وقد امتقع لونها :
ـ هل معك سيجارة ..؟
ـ إننى لا أدخن ..
ـ وخادمك .. ألا يأتى الآن ..؟
ـ أبدا إنه فى أجازة اليوم بطوله ..
ـ كم تعطيه فى الشهر ..؟
ـ أربعة جنيهات ..
ـ هذا غير الأكل والملابس ..؟
ـ طبعا ..
ـ سأقوم أنا بعمله .. ولا آخذ أى أجر ..
ـ أنت ..؟
ـ أجل .. أنا ..
ـ العفو ..
ـ ألا تصدقنى ..! سأبدا العمل من الآن ..
ـ أى عمل ..؟
ـ سأطهو لك طعامك .. وأغسل لك ملابسك .. وأكويها .. وأرتب فراشك .. وأثاثك .. وأمسح حتى البلاط .. وأجعل هذه الشقة الأنيقة .. محتفظة أبدا بجمالها وبهجتها ..
ـ أنك تتصورين هذا ..
ـ كيف ..؟
ـ فى الواقع .. لا تصلحين .. وستنقلب حياتنا إلى جحيم .. بعد شهر واحد .. وسأخجل حتى من البواب ..
فامتقع لونها وقالت بحدة :
ـ هل عرفك أحد أصدقائك بنفسك إن كان لك صديق ..؟
ـ عرفنى ..
ـ وهل قال لك أنك أنانى .. ومتعجرف .. وحقير .. وفيك كل الصفات الدنيئة .. وعجوز .. ومتصور أنك شاب .. خذ .. ثمن فراشك وطعامك ..
ودفعت يدها فى حقيبتها وهى ترتعش .. وألقت ورقة بجنيه على المائدة وخرجت تهرول إلى الشارع وهى تصرخ ..
 ونظرت من الشرفة فوجدتها تسرع فى الطريق .. وبدلا من أن تتجه إلى ناحية كوبرى الجلاء .. انحدرت مسرعة إلى الماء .. وألقت بنفسها فيه .. وصرخ الناس وتجمعوا وأسرع شاب خلع ملابسه ووثب وراءها .. وأخرجوها إلى الشاطىء وأسعفوها .. وعادت تتنفس ..
وأشار شخص إلى ناحيتى وكنت لاأزال واقفا فى الشرفة واتجهت إلىَّ كل الأنظار ..
حدقوا فى بقسوة وبلاهة .. ورأيت فى عيونهم الشر .. فدخلت وأغلقت ورائى مصراعى الشرفة الخشبى والزجاجى ثم أغلقت كل النوافذ ..
وأحسست بهم وهم يصعدون السلالم .. فأغلقت الباب بالمفتاح وتربسته ووضعت وراءه كل الكراسى التى فى البيت .. فقد صممت على ألا أفتح الباب .. ولا أتكلم .. فماذا أقول لهؤلاء الحمقى أنا الرجل العازب فى موقف كهذا ..
لايمكن أن يصدقوا أبدا مهما قلت الصدق .. أنى أقول الحقيقة ..



======================
 نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 393 بتاريخ 6/7/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
======================
     
العودة من السوق

ركب عبد الغفار حماره وانطلق به مبكرا إلى سوق الثلاثاء فى أسيوط ..
وكان يود أن يشترى " كيلة نخالة " من المعلم سدره .. ويأتى بملابسه وملابس الأولاد الجديدة من عند زكى الخياط .. ويبتاع جلبابا وطرحة لزوجته نفوسة و " مقطفا " ومركوبا لنفسه من القيسارية ..
وكان قد أخذ معه الخرج الذى حج به فى العام الماضى .. ليضع فيه كل هذه الأشياء .. وكان يتبرك ويعتز به كثيرا ..
ووضعه تحته فوق البردعة ..
وحث الحمار برجليه على الإسراع .. وكانت الطريق مزدحمة بالسيارات وعربات النقل والجمال والحمير .. والفلاحات والفلاحين .. يحملون الزكائب والأقفاص .. والمقاطف على رءوسهم متجهين جميعا إلى السوق ..
وكانت الحركة نشطة بعد موسم القطن .. وأمواج هذه الجموع كلها تتدفق على المدينة ..
وعندما دخل عبد الغفار المدينة فى الساعة التاسعة صباحا .. ضاع فى زحمة السوق .. ولكن حماره كان يعرف الطريق ..
ودخل القيسارية وأتى بالملابس من عند الخياط ثم اشترى ما يحتاجه لنفسه ولزوجته من تاجر المانيفاتورة ووضع هذه الأشياء كلها فى الجانب الأيمن من الخرج ..
وسحب حماره ودخل سوق الغلة ليشترى النخالة .. وكان يوسع لنفسه الطريق بمشقة ويصطدم بالداخلين والخارجين من السوق .. وبالفلاحين الحاملين الزكائب والمزارى .. وألواح " اللواق " والفلاحات الحاملات الأقفاص والقفف .. واللبن .. والسمن .. والبيض .. والدجاج .. وكل أنواع الطيور ..
وعندما وقف أمام دكان سدرة أنزل الخرج ووضع فى الجانب الأيسر منه النخالة ونقد سدره الثمن ..
وأعاد الخرج إلى مكانه .. وجر الحمار حتى يخرج به من السوق ..
وركب فى شارع الخزان وانطلق مسرعا ..
ولاحظ أن فلاحا يركب حمارا مثله ويتجه إلى الخزان ينظر إليه من جانب ..
ولكنه لم يعره بالا .. وانطلق وهو يشعر بالفرح .. والارتياح وأخذ يصور لنفسه الفرحة التى ستعم الأسرة كلها عندما ترى الملابس الجديدة ..
وعندما وصل إلى بيته أدخل الحمار فى الفناء ..
وأخذ يتوضأ ليصلى الظهر الذى فاته والعصر حاضرا ..
وسألته زوجته :
ـ جئت بالثياب للعيال ..؟
ـ نعم فى الخارج ..
وكان يشعر بالزهو ..
وذهبت الزوجة إلى القاعة حيث وضع الخرج ..
وسمعها تقول :
ـ أين الثياب يا عبد الغفار ..؟
ـ فى الخرج ..
ـ لاشىء فى الخرج ..
وهرول الرجل .. وعندما وقع نظره على الخرج ذهل .. فقد وجده مشروطا بمشرط وليس به ثوب واحد ..
وتجمع حوله أهل القرية وأخذ الأطفال يضحكون ويسخرون منه ..
والشىء الذى كان يحير عبد الغفار ويطير لبه أكثر من أى شىء آخر هو كيف يمكن أن يسرق الخرج المبروك الذى حج معه إلى الحجاز ..
======================= 
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
=========================