الجمعة، 17 أبريل 2015










 


حفلة زفاف




دعيت فى يوم الخميس الماضى إلى حفلة زفاف الدكتور فوزى الطبيب المشهور فى عالم الجراحة وكان زميلى ورفيقى فى عهد الحداثة .. وكنت قد انقطعت عنه مدة تقرب من العشر سنوات .. فلما تلقيت دعوة زواجه لبيتها وأنا مسرور لأنها ستتيح لى فرصة الاجتماع بنفر من خيار الأصدقاء ..
وجلسنا نتعشى بعد أن انصرف المدعوون جميعا وانفض السامر .. ولما فرغنا من الطعام أخذنا ندخن ونتحدث عن الزواج والمرأة .. وكان الملتفون حول المائدة من رفاق الصبا ومن أنصار العزوبة .. يرون السعادة والحرية فى الانطلاق من كل أسر .. ومع ذلك لم يبق فيهم عزب واحد .. تزوجوا جميعا .. ووقعوا فى الفخ ..!
وكان فوزى صاحب الدعوة أصغرنا سنا ومن أشد الناس حماسة للعزوبة والسعادة الفردية .. ولذلك عجبنا لكونه تحول وسقط سريعا ..
وقال أحد الأصدقاء إن فوزى رأى العروس فى حفلة خيرية ووقع فى أسرها .. وقال آخر أنه رآها فى لباس البحر على شاطىء جليم .. وقال ثالث أنه التقى بها عرضا فى استراحة شل على الطريق الصحراوى .. وكان وحيدا ومتعبا وأحس بأنه فى حاجة إلى رعاية أنثى ..
ودخل علينا فوزى ـ ونحن نتحدث ـ يوزع الحلوى فانقطعنا عن الكلام .. وكنا نود أن نسأله كيف تزوجت .. ؟ ولكنا لم نوجه إليه أى سؤال .. وجلس يشترك معنا فى الحديث ..
***
وكنا جميعا نعرف أن الزواج يحدث لأتفه سبب .. وأن الرجل ضعيف وعاطفى وتغلب عليه النزعات الشاعرية والأحلام .. ولذلك يتحول سريعا من حال إلى حال ..
وقال فوزى ضاحكا :
أ لقد تزوجنا جميعا .. وبذلك نغلق نادى العزاب ..
وسأله كمال :
ـ وكيف وقعت ..؟
ـ إن الحديث عن ذلك سيطول ..
فقال كمال :
ـ إن الإنسان يفكر فى الزواج عندما يكون واقعا تحت تأثير مشاعر غير طبيعية .. ويكون غالبا فى حالة ضعف عام ..!
وسأروى لكم قصة زواجى :
ـ فى ذات صيف كنت أجلس مع صاحب لى فى محل اتنيوس .. وكنا نشغل مائدة قريبة من الأوركسترا وكانت الفرقة تعزف لحنا لشوبان والسكون والهدوء يخيمان على المكان .. وفجأة سمعت حركة بجوارى قطعت حبل هذا السكون العميق .. فتلفت مغتاظا من هذا الحيوان الذى لا يقدر الفن ولا يفهم روائع النغم .. ورأيت رجلا عجوزا قد أخذ يشغل المائدة التى بجوارى وبصحبته ثلاث فتيات متقاربات فى السن والجمال .. ورأيت واحدة منهن تنظر إلىّ وكأنها تقول لى بعينيها أين أنت أننى أبحث عنك .. وشعرت فجأة بشىء يلف ويدور فى رأسى ..
ولما بارح الرجل المكان ومعه بناته تبعته ببصرى .. وفى مساء اليوم التالى جلست فى المكان نفسه .. وجاء الرجل ومعه البنات .. وجلست الفتاة التى أحببتها على الكرسى الملاصق لى .. وكانت الموسيقى تعزف المقطع الأخير من أحلام شهرزاد ..
فاضطجعت على الكرسى وأخذت أسبح وأحلق .. والفتاة بجوارى .. ولما انتهى العزف ونهضوا لم أستطع أن أبقى .. ووجدت نفسى ألحق بهذه الأسرة .. وتبعتها حتى عرفت مقرها .. وبعد شهر أصبحت هذه الفتاة زوجتى ..
وقال أحد الجالسين :
ـ إن الذى حدث .. كان من تأثير الموسيقا ..
فقال كمال :
ـ ربما .. ولكننى على أية حال كنت مسلوب الإرادة ..
ـ وهل ندمت ..؟
ـ لا .. إننى فى غاية السعادة ..
وقال صديقنا عفت :
ـ إن قصة زواجى أبسط من هذا .. كنت أسير مرة فى شارع 23 يولية .. ورأيت سيدة تقف على واجهة محل شملا .. ومعها فتاة فى سن العشرين .. وشاب فى مثل سنى .. ووقفت بجوارهم أشاهد المعروضات .. وكان وقوفى بجوار الفتاة ولكن يبدو أنها لم تحس بى .. وفجأة رأيتها تجذبنى من كمى وتحدثنى على اعتبار أننى أخوها .. ولما تلفت وواجهتها أدركت خطأها .. واحمرت خجلا .. وتمتمت واعتذرت .. ولكنى لن أنسى ما حدث .. وتبعت الأسرة إلى بيتها فى شارع منصور ..
وبعد أيام قليلة أصبحت هذه الفتاة زوجتى ..
ولم ننس قط هذا اللقاء .. فأحتفل به أنا وهى فى كل عام كأنه يوم عيد ..
وقال صديقى خيرى :
ـ كنت أسكن فى حى المنيرة .. وكنت أشاهد فى المنزل المقابل لمنزلى أسرة مكونة من أرملة عجوز وخمس بنات فى سن الزواج .. وكن جميعا يرتدين السواد .. فى الليل والنهار .. وليس لهن عائل .. وعلمت أن والد الفتيات كان من أبطال الجهاد .. وقتل برصاص الإنجليز فى ثورة 1919 ..
وبعد أن مات الرجل .. لم يفكر فى هذه الأسرة أحد .. وترك مصيرها للمقادير ..
وكنت أشاهد هذه الأسرة من النافذة فى كل ساعة .. وأرى ما تعانيه من فاقة وبؤس .. وكنت كلما وضعت لقمة فى فمى أحس بمرارة العلقم فى حلقى ..
وذات يوم وجدت نفسى أتقدم للأم لأتزوج كبرى بناتها .. وأحسست بعد أن تم الزواج براحة كبرى .. وكانت فاتحة الخير لى ..
***
وجاء دورى فى الحديث فتحولت إلىّ الأنظار .. وقلت وأنا أنفض رماد السيجارة :
ـ زارنى ذات مساء فى بيتى صديق لى يدعى توفيق .. وطلب منى أن أرافقه فى مناسبة سعيدة .. لأنه سمع عن فتاة من عائلة طيبة ويريد أن يتزوجها وسنذهب لنراها لأول مرة .. وحاولت أن أتخلص منه فلم أستطع .. وأخيرا ركبت عربته وذهبنا إلى أسرة الفتاة فى حدائق القبة ..
وكان المتفق عليه أن يجلس فى مدخل البيت مع شقيق الفتاة جلسة عادية .. وتمر علينا الفتاة وهى قادمة من الخارج .. مع صاحبات لها .. وإذا سنحت الفرصة سنسلم عليها يدا بيد ..
 وبرغم البساطة فى العرض فإننى أكره هذه الأمور كلها من كل قلبى .. وأكره الاسترقاق والرق وعرض الفتيات كالجوارى فى سوق النخاسة .. ومع ذلك ذهبت وجلست مع صاحبى ننتظر مرور الفتاة ..
وجاءت تتوسط صاحباتها .. وكانت فى حالة يرثى لها من الاضطراب والخجل .. وقام أخوها بحركة مسرحية بارعة وجعلها تسلم علينا بيدها ..
وتناولت يدها .. كما تناولت يد غيرها من الفتيات .. ولاحظت وهى تسلم علينا أنها أعطتنا جانب خدها .. وأنها تخفى حولا بسيطا فى العين اليسرى وسحابة بيضاء .. زحفت على القرنية ..
ولأنى طبيب للعيون تبينت هذا بمنتهى السرعة ولكن توفيقا لم يلاحظ أى شىء .. وسألنى بعد أن ركبنا السيارة ..
ـ ما رأيك فيها ..؟
ـ أنها غاية فى الجمال والرقة ..
ـ أتوكل على الله ..؟
ـ توكل ولا تتردد ..
ـ غدا سأرسل ماما لتراها ..
ـ ماما .. وهل الذى سيتزوج أنت أم ماما ..
ـ ولكن لابد أن تراها ..
وتركته فى شارع سليمان باشا ..
***
وبعد اسبوع قابلته وسألته :
ـ هل تمت الخطبة ..؟
ـ لا ..
ـ لماذا ..؟
ـ لم تعجب ماما ..
ـ ولكنها أعجبتك أنت فما دخل ماما ..؟
ـ لا أستطيع دون موافقتها ..
وغاظنى منه هذا الضعف وثرت فى وجهه .. وقلت له فى غضب :
ـ هل تعرف مبلغ الألم الذى تركته فى نفس الفتاة .. بعد أن عرضت نفسها عليك وعلى أمك ..؟
اتفقت مع أخيها على هذا العرض ..
ـ أنت حيوان .. وأخوها حيوان مثلك .. والإنسان الذى لا يلاحظ شعور الآخرين حيوان مركب .. كان يمكن أن تراها من بعيد دون أن تعرف هى .. فان أعجبتك تقدمت إليها .. ولكنك عقدت الأمور .. وسببت لها بفعلتك ألما دفينا .. لأنك بهيم ..
وتركته وأنا أسبه ..
وأخذت أفكر فى هذه الفتاة المسكينة ومبلغ الألم الذى سببه لها هذا الحيوان لقد كانت تعيش فى هدوء وسلام فى بيت والدها .. وربما لم تفكر فى الزواج قط .. كانت سعيدة مع أهلها ومع صاحباتها .. ثم جاء هذا الرجل وألقى عليها حجرا فعكر صفوها وقلب حياتها .. ومر أكثر من عام ونسيت توفيقا وخطبته ..
***
وبعد ظهر يوم كنت أمر فى عنبر المستشفى .. فى نوبة عملى ورأيت هذه الفتاة ومعها صاحبة لها تدخلان الحجرة رقم 18 فى عنبر الدرجة الثانية وكنت أعرف أن بهذه الحجرة سيدة عملت لها عملية إزالة لحمية فى الجفون .. فأدركت أن الفتاة قريبة لها أو من معارفها ..
ولما دخلت بمعطفى الأبيض .. كنت أتوقع ألا تعرفنى الفتاة .. خصوصا وقد مر على لقائنا الماضى أكثر من عام .. ولكنها عرفتنى .. فقد امتقع لونها وبدت نظرة الكراهية فى عينيها .. وتحدثت قليلا مع المريضة وخرجت ولم أوجه للفتاة أى كلام ..
***
رأيتها بعد ذلك أكثر من مرة فى المستشفى .. وعندما عدت المريضة فى البيت بعد أن خرجت من المستشفى لأطمئن على نجاح العملية .. وجدت الفتاة هناك .. فأخذت أحدثها وأزيل الكراهية من قلبها .. ولكن كانت فى حالة لا تصور من التعاسة .. كانت تتهرب منى .. وإذا رأيتها مصادفة بدت بجانب وجهها ..
ولكننى استمررت أتعقبها .. لأزيل شعور النقص من نفسها .. ثم تقدمت وتزوجتها ..
***
وكان أول شىء فعلته فى الفترة الأولى من زواجنا هو ألا أشعرها بأن فى عينها أى نقص .. بل كلها جمال طبيعى وكنت وأنا طبيب العيون .. أستطيع أن أزيل السحابة بعملية جراحية .. أو أعرضها على زميل .. أو أسافر بها إلى لوزان .. ولكنى عرفت من خبرتى أن ثلاثة أرباع الأمراض العضوية تزول بإرادة المريض دون جراحة على الاطلاق .. ولهذا اتجهت إلى عمل الطبيعة ..
ولقد حدثنى زميل قابل فرويد العالم النفسانى المشهور فى فيينا عام 1934 فحدثه عن شاب كان متزوجا من شابة جميلة .. ولكنها كانت بخراء .. فأوعز إليه بأن يقبلها فى فمها .. ولا يشعرها فى أى وقت بأنه متضايق من رائحة فمها ..
ففعل ذلك .. وزالت الرائحة الكريهة من فمها إلى الأبد ..
وقد بدأت أوحى لزوجتى بأنه لا شىء فى عينها اليسرى على الاطلاق .. وأنها كأختها اليمنى سوداء فاتنة ..
وكانت كل معاملاتى لها على هذا الاعتبار .. وفعل الايحاء فى نفسها فبعد أن كانت تواجهنى دائما بجانب من وجهها أصبحت تواجهنى بعينيها الأثنتين .. ولا تحولهما عنى وكانت تتكحل لتخفى بياض السحابة فامتنعت عن ذلك أيضا ..
وابتدأ البريق فى عينيها يظهر والصفاء والسواد ..
وحدثت المعجزة ولم يعد للسحابة أى أثر ..ونظر إلىّ الزملاء وقالوا أننى فعلت خير ما يفعله أى انسان ..
***
وكانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل .. فابتدأ الأصدقاء ينصرفون وبقيت أنا والدكتور فوزى .. فلما هممت بالانصراف .. قال فى الحاح :
ـ تعال لتهنىء زوجتى فأنت أعز صديق ..
وفتح بابا جانبيا ودخلت فوجدت سيدة رائعة الحسن تجلس على كرسى ذى عجلات ..
وتقدمت وانحنيت لاتناول يدها مهنئا ..
ونظرت إلى صديقى باعجاب واكبار .. فقد تفوق علينا جميعا بقلبه وانسانيته ..
لقد كانت زوجته مريضة بشلل الأطفال ..




======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 159 بتاريخ 10/1/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
=======================  
       
























                                        رصاصـة                                       


     كان القائد يزور مستشفى الحلمية .. يعود الجرحى ويوزع الحلوى على أبطال المعركة ..
     ومكث فى الغرفة المخصصة للعمليات .. حتى فرغ الأطباء من اجراء عملية دقيقة لأحد الجنود .. ولما اطمأن تماما على حالته .. ترك له باقة من الزهر .. وعلبة من الحلوى وخرج .. وعرف من فى المستشفى قصة هذا الجندى وسبب اصابته ..
     عرفوا قصة بطولته فى خليج السويس ..
     عرفوا أنه أغرق وحده طرادة للأعداء .. وظل يقاتل والطائرات تحلق فوقه كالنحل .. ولما عجزت الطائرات عن اسكات مدفعه .. صبت عليه النار وحصرته فى دائرة مشتعلة .. لتقضى عليه القضاء الحتم .. ولكنه لم يعبأ بهذا كله وظل يقاتل ويرمى السفينة باللهب ..
     وأصابته شظية فى بطنه .. وأخرى طيرت يده .. ومع هذا لم يسكت مدفعه .. كان يستعمل كل جوارحه الباقية ويحرك المدفع ويده تقطر بالدم .. حتى أغرق السفينة ..
     كان كل من فى المستشفى يتحدث عن هذا البطل .. وفى شرفة المستشفى المطلة على الصحراء جلس ثلاثة من الأطباء يشربون الشاى ويتحدثون عن العملية الدقيقة التى أجريت له .. وقال الدكتور عارف :
     ـ ان واحدا .. فى الألف .. يقوم من هذه العملية .. وأحسبه سلط إرادة الحياة علينا .. ونحن نقطع من مصارينه .. سلط جبروته .. ولهذا نجحت العملية ..
     ـ وبمثل هذه الإرادة أغرق السفينة ..
     ـ طبعا .. ولقد حدثنى البكباشى .. حسنى .. عن فاضل .. عندما اقتربت طرادة الأعداء من الخليج وأخذت تقذفه بالنار .. أدار وجهه لرفقائه .. وقال لهم بهدوء .. سأغرقها .. ولقد فعل ..
     وتوقف الطبيب عن الحديث عندما شاهد احدى الممرضات المتطوعات خارجة .. من غرفة الجريح ..
     وسألها وهى تمر :
     ـ هل أفاق من البنج ..؟
     ـ لا ولكنه سيصحو حالا ..
     وابتسمت السيدة عن أجمل وجه .. وأجمل ثغر .. ثم مضت مسرعة فى الطرقة ..
     وقال الطبيب .. وهو يستمع إلى وقع خطاها البعيد :
     ـ كان " فاضـل " يرفض البنج .. ويقول أنه على استعـداد ولا
 داعى للتخدير ..
     وضحكت أنا والدكتور عزمى وفى غفلة منه خدرناه وأجرينا له العملية ..
     وبعد أن فرغ الأطباء من شرب الشاى .. نهضوا ودخل الدكتور عارف .. غرفة الجريح .. وانصرف الباقون فى الممرات ..
***  
     ولما أفاق فاضل لم يكن يعرف ما جرى .. كان يتصور أنه لايزال فى قلب المعركة .. ثم رجع إلى نفسه ونظر إلى السرير .. وإلى حيطان الغرفة .. وإلى الممرضة الواقفة بجواره .. وحرك يده على بطنه ووجد الضمادات .. والأربطة فابتسم وأدرك كل شىء ..
     وقبل الغروب .. دخل رجل طويل يلبس العمامة والجبة .. من باب المستشفى وسأل عن طبيب يعرفه من أطباء المستشفى وقاده جندى .. إلى قسم الجراحة وبعد قليل دخل غرفة " فاضل " وعرف الجميع أنه والده ..
     دخل الشيخ الغرفة بهدوء .. وبعد لحظات كان كل انسان فيها يضحك من النوادر والملح التى يقصها عليهم ..
     وأخذ الشيخ يسأل عن " بلدياته " من الجرحى .. ثم طاف بكل الغرف .. ورافقته سيدة جميلة من المتطوعات .. عرفت مقصده الإنسانى وساعدته على تحقيق رغبته .. وأخذ يوزع ما حمله .. من هدايا وحلوى
 على الجرحى ..
     وأخيرا سلم على ابنه فاضل .. وخرج يمشى فى الممر ..
     وقبل أن يبلغ الباب الخارجى قابل طبيبا يعرفه .. فسلم عليه بحرارة ..
      ولما خرج الشيخ سأل الأطباء زميلهم :
     ـ أتعرف الرجل ..؟
     ـ أجل .. أعرفه من سنوات ..
     ـ أنه والد فاضل ..
     ـ عرفت هذا منه الآن وهو يحادثنى على الباب .. ولقد أيقنت أن الشجاعة تورث .. كما تورث الصفات الأخرى .. وسأعرفكم ببعض الأشياء عن الرجل ..
     وأنصت الأطباء للطبيب المتحدث :
     ـ الشيخ عبد القادر والد فاضل من جحدم احدى القرى فى الصعيد .. وله قصة تروى كما تروى أساطير البطولة أيام حروب العرب .. وحروب طروادة ..
     ـ قصة بطولة ..!؟
     ـ أجل .. وسأرويها لكم الآن .. حتى لا تعجبوا من كل ما فعله ابنه فاضل .. وتعرفون أن البطولة فى الدم ..
     كان الشيخ عبد القادر كبير الأسرة .. ويدير شئونها .. وكان مزارعا من المزارعين ..
     وكان عنده خفير من الأعراب .. يحرس زراعته .. فاختلف معه .. وأعفاه من عمله ..
     وفى الليلة التالية .. وجد الشيخ عبد القادر وهو يمر فى الغيط .. نفس الخفير المطرود يجنى فى القطن .. فاستاء منه .. ولكنه كتم عواطفه وأمره بلطف أن يلقى ما معه من قطن ويخرج من الغيط وتظاهر الأعرابى بالقبول .. ولكنه بدلا من أن يخرج من الغيط ارتكز فى القناة .. ومد فوهة البندقية نحو الشيخ عبد القادر فأخذ هذا يحاوره ويداوره ويستعمل معه كل لين ولطف .. ويفهمه أن لا فائدة تعود عليه من القتل .. كل ذلك والأعرابى لا يرتدع .. بل انتهز فرصة انشغال الشيخ عبد القادر بالحديث .. وأطلق عليه النار فى صدره .. ولكن شاء الله أن تخيب الطلقة .. وهنا صوب عليه الشيخ عبد القادر فى الحال من بندقيته الخرطوش فأرداه قتيلا .. ثم دخل ببندقيته إلى وابور هناك فى الغيط .. وأغلق الباب .. ومد ماسورة البندقية من فرجة وجدها فى الباب ..
     وكان يعرف أن الأعراب يحيطون بالمنطقة وسيعلمون بالخبر بعد لحظات .. وفعلا علموا بمقتل ابنهم .. فتحركت جموعهم .. ومن عيونهم يقدح الشرر .. إلى مكان الحادث ..
     وشاهدوا ابنهم القتيل ملقى فى القناة والشيخ عبد القادر فى داخل الوابور فثارت جموعهم .. وكانوا مسلحين بكل أنواع الأسلحة الحديثة من بنادق سريعة الطلقات ومدافع رشاشة .. وخناجر .. وهراوات .. وكان باب الوابور من الوهن بحيث يستطيع أن يدفعه طفل برجله ..
     وصاح كبيرهم :
     ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. نحن لا نريد بك شرا .. افتح ..
     ـ لا .. ومن يقترب منكم خطوة .. سيلحق بعسران وتأكله الكلاب ..
     ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. افتح ..
     ـ أنا عندى مائة وخمسون طلقة .. وسيموت منكم رجال بعدد هذه الطلقات .. وبعد ذلك يمكن أن تفتحوا أنتم الباب ..
     ـ افتح يا شيخ .. افتح ..
     ـ فى الصباح .. عندما يعلم أهلى بما حدث .. ويجيئون مثلكم سأفتح الباب .. أما الآن فلا توجد قوة تجعلنى أفتحه ..
     ووقفوا فى مكانهم مسمرين مذهولين ينظرون إلى فوهة البندقية ولا يستطيع واحد منهم أن يتقدم خطوة ..
     ـ أنت قتلت عسران ..؟
     ـ قتلته .. ومن يتقدم منكم سأقتله .. وتأكله الكلاب ..
     ولم يضعف الشـيخ عبـد القادر فيقول لهم أنه ضربه دفاعـا عن
 النفس .. بعد أن أطلق عسران النار عليه .. لم يشرح لهم ما حدث .. بل قال لهم أنه قتل وكفى .. ظل فى موقفه صامدا جبارا ..
     وبعد ساعتين جاء رجال البوليس من المركز .. وكان الظلام يخيم والليل رهيبا .. وعلموا من الموجودين فى المكان أن الرجل استقتل .. ويرفض أن يفتح الباب ..
     وصاح رئيس القوة ..
     ـ افتح يا شيخ عبد القادر .. اننا البوليس ..
     ـ ومن يدرينى .. أنها خدعة .. فى الليل .. والظلام .. لقد قررت أن أفتح الباب فى الصباح .. ولا توجد قوة على الأرض تثنينى عن هذا القرار ..
     وكان المعاون حكيما .. فحاصر المكان إلى الصباح ..
     وفى الصباح .. جاء أهله .. وفتح الشيخ عبد القادر الباب ووجدوا معه .. بندقية خرطوش .. بروحين ..!! وكان بها رصاصة واحدة .. ولم يكن معه سواها ..

=========================================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 185 بتاريخ 7/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962 
=========================================







فى المحطة

غابت الشمس وراء الجبل وكان العشى يزحف والشفق الأحمر يذوب فى الأفق الغربى ويتناثر منه النضار .. وظهر نور ضئيل فى غرفة ناظر المحطة .. ولم يكن فى المحطة كلها نور سواه .. وكانت البناية مكونة من ثلاث حجرات شيدت من الحجر الأبيض .. وقامت على مستوى واحد حذاء الرصيف .. ولكن الفلاحين الذين كانوا يركبون القطار من هذه المحطة لم يشاهدوا سوى غرفة واحدة مفتوحة يتحرك بابها مع الريح .. وفيها كان يجلس الناظر خلف منضدة صغيرة .. ويقطع لهم التذاكر .. أما الغرفتان الأخريان فكانتا مغلقتين على الدوام ..
وكان الرصيف الضيق كثير التراب .. ولم يكن فى المحطة شىء يمكن أن يستريح عليه مسافر ..
وكان الفلاحون يجلسون تحت شجرة من شجر السنط وجدوها مغروسة هناك من سنين ..
وبجوار هذه الشجرة طريق صاعد سوته أرجل الفلاحين ودكته دوابهم .. ومن هذا الطريق كانوا يصعدون إلى المحطة .. ومنها يهبطون .. إلى القرى والمزارع ..
***
وكان كل شىء يتطور بجوار المحطة وحولها .. أما المحطة نفسها فبقيت كما هى لم يتغير منها شىء منذ وجدت السكة الحديد وصفر أول قطار .. فهى بناية صامتة كئيبة يخيم عليها الفقر ..
وكانت القطارات السريعة تهزها وتثير فى جوها زوبعة من الغبار الثقيل ..
وقطارات الركاب التى تقف عليها تتجاوز رصيفها دائما .. فكان الفلاحون رجالهم ونساؤهم يصعدون إلى القطار من العربات الخلفية ويتسلقون السلالم .. وفوق رءوسهم حاجاتهم .. ومنهم من ينزلق ومنهم من ينكفىء على وجهه ..
ولكن برغم كل هذه المتاعب فقد كانوا راضين قانعين .. فهم يسافرون بقروش قليلة إلى بنى قرة .. والقوصية .. وديروط .. ويحضرون كل الأسواق ويحملون عربات القطار كل ما معهم من متاع ..
وكانت المحطة بعيدة عن طريق السيارات المرصوف .. وبجوارها بستان من النخيل .. اتخذ أحد القرويين على امتداده قهوة صغيرة للعابرين والمنتظرين .. ووضع على الباب زيرا كبيرا من الفخار ودكة ..
وكان الفلاحون يسمونها " قهوة المحطة " وفيها كانوا يشربون الشاى الأسود .. ويدخنون " التمباك " ويستريحون فى ظلها من وقدة الهجير ..
ولأنها فوق ربوة فقد كان الجالس فيها يشرف على الحقول .. فيرى القطن بأزهاره وألوانه الزاهية .. والأذرة بقناديلها وعيدانها الطويلة .. وغيطان البرسيم مثل السندس ..
ويرى تحت الجسر البهائم ترعى على امتداد واسع وهى مطلقة من قيودها ..
وعلى الرغم من مظاهر الحياة التى تبدو حول المحطة فى النهار فالرجل تنقطع هناك بعد قطار الساعة الثامنة مساء .. انقطاعا تاما .. وتخيم الوحشة على المكان .. وتترك المحطة للظلام والهول .. ولأعمدة البرق القائمة كالأشباح .. ولقطارات الاكسبريس التى تهزها بعنف وكأنها تدكها ..
ولكن صابر يظل فى القهوة إلى الصباح .. فإنه لا يعدم عابرا فى الليل مهما كانت الأحوال ..
***
وذات مساء شاهد .. وهو يقف على باب القهوة .. شخصا يصعد بحماره التل .. ووراءه خفير مسلح ..
ونزل الراكب من فوق الركوبة لما اقترب من المحطة ..
وسأل :
ـ قطر .. ثمانية .. مر ..؟
ـ بقى عليه عشر دقائق ..
وتلفت الصراف للخفير :
ـ روح أنت .. يا عبد العليم وكتر خيرك ..
ـ لما ييجى القطر .. وتركب ..
ـ لا .. كفاية لغاية هنا .. روح واتعش مع أولادك ..
وركب الخفير الحمار .. وابتلعه الظلام .. ودخل الصراف القهوة ينتظر القطار .. وكان يمسك بيده حقيبة صغيرة طواها على صدره ..
ومرت ساعة ولم يأت القطار .. ولاحظ أن السيمافور لم يتحرك قط على الخط النازل أو الصاعد ..
وسمع فجأة صوت الرصاص .. يدمدم .. واستمر الضرب دون توقف مدة طويلة .. ونظر إلى صابر فرأى وجهه ساكنا .. كأنه اعتاد مثل هذه الأشياء وألف سماعها فى الليل ..
وأخذ صوت الطلقات يقترب من المحطة .. وأسف كمال لأنه ترك الخفير يعود إلى القرية قبل أن يركب القطار .. فماذا يفعل وحده فى الليل وسط الرصاص .. فى جهة لايعرف أهلها ويركب منها القطار لأول مرة .. شعر بالخوف الشديد .. ووجد نفسه يغوص بجسمه فى أعماق القهوة ..
ولاحظ صابر أن الصراف قلق .. وكان يود أن يحادثه ليصرف عنه السوء ولكنه وجده قد أطرق وتحول عنه فتركه فى حاله ..
وانقطع صوت النار ودخل فى أثناء السكون رجل مسلح القهوة .. وجلس وطلب الشاى .. وكان يبدو عليه أنه خرج لتوه من المعركة .. وأخذ الصراف يرقبه دون أن يثير انتباهه وكان نحيفا .. متوسط الطول .. ويضع على رأسه لبدة .. وكان وجهه أسمر طويلا وعيناه تبرقان ..
وكان قد جلس هادئا فى مدخل القهوة ولكن عينه كانت ترقب الطريق باهتمام ..
وكان صابر قد أعطاه جانب وجهه ولكنه بعد قليل أقبل عليه وأخذ الرجلان يضحكان ..
ولاح سواد يتحرك على الجسر .. ثم صعد إلى المحطة .. وبدت امرأة تضع مقطفا على رأسها .. وقالت وهى تقترب من المكان :
ـ الاكسبريس .. انقلب .. فى صنبو ..
ـ إيه ..؟
وقفز كمال واقفا كأنما لسعته عقرب ..
ـ بتقولى إيه ..؟
ـ الاكسبريس .. اصطدم .. فى صنبو .. والحكام طاروا على هناك ..
ـ سمعت من مين .. الخبر .. دا ..؟
ـ من عبد المقصود ..!
وشعر كمال بهزة عنيفة .. وجرى إلى الناظر يستطلعه الخبر ..
فوجد حجرته مغلقة .. ولم يجد أحدا فى المحطة .. وارتجف .. وهو يقف وحده على الرصيف .. فقد كان يحمل ثلاثة آلاف من الجنيهات .. حصلها اليوم من الفلاحين .. وسيوردها غدا للمديرية .. فماذا يحدث لو علم أحد المجرمين بما معه من أموال .. سيمزقونه إربا .. ويسرقون النقود .. ويضعونه فى جوال ويلقونه فى الترعة ..
وتحرك على الرصيف .. وهو يضم الحقيبة على صدره ..
ماذا يحدث لو ضربه أحدهم فى الظلام بنبوت وفر بالنقود .. وجد نفسه يرتجف .. ماذا يحدث لو فعل هذا حتى صابر يستطيع أن يمزقه بشىء ويرميه فى الحقل ..
وكان الظلام رهيبا والخواطر السوداء تمزق رأسه .. فعاد إلى القهوة .. ووجد الرجل المسلح لايزال فى مكانه .. والمرأة هناك منزوية فى ركن .. وكانت صامتة .. ثم أخذت تتحدث عن سعر الغلة فى السوق .. وترفع الطرحة عن وجهها وتضعها ورأى الصراف على الضوء المرتعش أنها صبية وجميلة وعلى خدها الأيمن شامة فى حجم العدسة ..
ومع جمال المرأة وشبابها .. وصباحة وجهها وحلاوة صوتها .. فإنه شعر برجفة .. لا لأنه سيموت فكل إنسان سيموت متى انتهى أجله .. ولكن لأن حياته ستنتهى بمثل هذه الفاجعة ..
ونظر إلى أعمدة التلغراف الصامتة وإلى أسلاك التليفون التى تهتز أمامه فى الجو ولا تستطيع أن تسعفه ..
وابتسم فى مرارة .. ولعن الظروف التى جعلته يسرح الخفير قبل أن يدخل القطار المحطة ..
ولعن الظروف التى  جعلته يأتى إلى هذه المحطة .. فهو دائما يركب السيارة من القرية إلى البندر مباشرة ..
ولكن الأقدار حملته إلى هذا المكان ليلقى حتفه .. وتسرق الأموال ..
ونظر إلى صابر ورآه يتهامس مع الرجل المسلح .. فأيقن أنهما يتآمران على قتله وسلبه .. وطاف به هاجس أكثر من مرة .. ليخرج من القهوة وينجو بجلده .. ولكن أين يذهب .. وحده فى الليل ..؟ ولو خرج ربما تبعه هذا الرجل .. وقتله ..
جلس فى الخارج يرقب الشريط .. ومن حوله النخيل والظلام .. ولما أدركه التعب جمع ركبتيه بين يديه وجلس نصف نائم ..
وتحركت ريح الخريف .. ونبحت الكلاب .. وخيل إليه أنها تطارد أشباحا هناك تحت الجسر .. ونظر حوله فلم يجد المرأة ولم يجد الرجل المسلح ..
وكان مصباح صابر قد انطفأ وأصبح الكوخ ميتا كالتراب .. وحدثته نفسه أن المرأة ذهبت مع الرجل إلى الحقل .. وسر لأنهما ذهبا .. وأحس كأن الشيطان قد ترك المكان ..
وشعر بالراحة والأمان يعود إليه وشعر بحنين إلى النوم فأغفى وهو جالس ..
وسرعان ما رأى فى الحلم أنه يركب عربة فى أتوبيس الصعيد تسير به على الطريق بين المنيا وأبو قرقاص .. وكان معه ابنه منير وكان الفلاحون فى العربة يتحدثون عن البذرة وتقاوى بنك التسليف .. وغلاء أسعار الماشية .. وفجأة أطلق الرصاص على السيارة وأصابته رصاصة فى كتفه .. وفتح عينيه مذعورا فراعه أنه سمع صوت طلقة .. كالتى رآها فى الحلم ..
ووجد الرجل المسلح ملقى على وجهه على بعد خطوات منه .. ويده لاتزال قابضة على أطراف حقيبته ..
أما صابر فقد كان فى تلك اللحظة واقفا على باب القهوة .. وقد استدار ليضع البندقية ..



========================= 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 247 بتاريخ 7/2/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
===================== 
    
  












رسامة

     كان اليوم الثانى من عيد الفطر .. والنفوس ضاحكة مستبشرة بالعيد وذهبت أزور صديقا فى إحدى المجلات الأسبوعية .. ودخلت علينا فى ساعة الظهيرة فتاة حسناء تحمل لوحة كغلاف للمجلة .. وسر الصديق من روعتها .. ووضوح فكرتها ..
     ووقفت بجانبه أتأمل الرسم وأطرى عمل الفتاة .. وكانت هى فى خلال ذلك قد انزوت فى ركن وهى خجلى وخداها يتقدان وعرفنى بها كرسامة موهوبة وزاد هذا من ارتباكها ونظرت إلىَّ قليلا .. ثم نكست رأسها ..
     والواقع أن الفتاة كانت هى نفسها لوحة رائعة أجمل من اللوحة التى رسمتها .. كانت فيها فتنة بارزة فى الشفة والحاجب .. والعين السوداء الناعسة ..
     وكنت أشعر بانتفاضة كلما رأيت فتاة تدخل من الباب الضيق فى عالم الفنون .. وتصبح شاعرة أو موسيقية .. أو رسامة .. لمجرد أنها أنثى ..
     وعلى هذا الاعتبار المشحون بالعواطف الفائرة عاملت الفتاة .. فلما أخرج لها صاحبى من درج مكتبه " الشيك " ثمنا للرسم .. تناولته .. وقلبته فى حيرة ..
     ـ أصرفه من هنا ..؟
     كانت تمسك " شيكا " لأول مرة فى حياتها .. ولما لاحظت حيرتها أخذته منها .. وأعطيتها الجنيهات .. السبعة .. وسرت كثيرا وشكرتنى ..
     ولاحظت وهى خارجة من الدار أنها تعرج ..
*** 
     وكنت فى ذلك الوقت أسكن فى ضاحية الهرم فى منطقة الفيلات الصغيرة .. بمحطة " الوسط " وكان بيتى صغيرا .. وبعيدا عن الشارع الرئيسى .. وعن طريق السيارات .. هناك وسط المزارع .. كنت أعيش وأرسم وحيدا محروما من متع الحياة ..
     ولكن الفرشاة كانت لينة فى يدى وروحى كانت منطلقة وأفكارى كانت تعلو وتأتى بكل جديد ورائع ..
     وكنت فى الطريق إلى البيت أمر على ملاهى الأوبرج .. والأريزونا .. وهافانا .. وأحادث بعض النساء اللواتى تطاردهن السيارات .. أو ترميهن الملاهى إلى ظلام الطريق .. وكنت إذا وجدت فيهن الوجه الذى يعبر عن شىء يكون فكرة آخذ صاحبته إلى البيت .. وتجلس أمامى ساعات .. وأرسمها فى الوضع الذى يبرز مفاتنها .. ثم أعطيها كل ما معى من نقود ..
     كنت أرسم فى هذه المنطقة الهادئة .. وأكلف بعمل كثير ولا أجد فى وقتى ساعة من فراغ .. وكنت أربح كثيرا وأنفق أكثر مما أربح وأعيش فى دوامة .. من التفكير فى العمل والحياة الخالصة للفن .. وكان الانكباب على اللوحات من الصباح .. إلى ساعة الليل .. يرهقنى .. فأرمى الفرشاة وأنا محطم الجسم والأعصاب وأستغرق فى النعاس ببدلتى ..!!
     وإذا استيقظت فى الصباح مبكرا .. كنت أذهب إلى قلب القاهرة .. وكنت أعرض بعض لوحاتى .. عند تاجر إيطالى يدعى " مارزينى " وكان خبير فى صنعته وعنده ورشة لصنع أجمل البراويز على الاطلاق وكان يبيع لى لوحة واحدة أو لوحتين فى السنة .. وكنت أكتفى بهذا القدر .. لأنه كان يتعامل مع خاصة الزبائن من عشاق الفنون الذين يدفعون أثمانا عالية ..
***
     وحدث عصر يوم وأنا جالس فى مدخل المحل .. أن دخلت علينا نفس الفتاة التى قابلتها فى المجلة وكانت تحمل لوحة ملفوفة .. ولما رأتنى فى الداخل عرفتنى .. فشجعها هذا على مخاطبة صاحب المحل .. واعتذر لها الرجل عن شراء أى شىء لأن اللوحات عنده مكدسة .. ولكنه وعد أن يعرض لها اللوحة فى معرضه بالثمن الذى تراه .. 
     واشتركت معها فى تقدير الثمن ثم تركت اسمها وعنوانها للرجل وخرجت ومشيت معها فى شارع محمد فريد .. حتى اقتربنا من بنك مصر .. وعلمت منها أنها تعلمت الرسم فى المدرسة .. وأنها عشقته من الطفولة .. وعندها لوحات كبيرة .. وأنها ترسم لأنها تقضى الوقت كله مع والدتها فى البيت .. وكانت لاتفكر فى العرض أو البيع ولكن زميلة لها شجعتها على ذلك ..
     وقالت لى أنها تعرفنى من سنين .. منذ رأت أول لوحاتى فى معرض الفنون الجميلة .. وأنها تعتبرنى أستاذها .. وقد شكرتها على هذا الاطراء .. وسررت به ..
     ولما سألتها :
     ـ لماذا لم تقدمى شيئا آخر للمجلة ..؟
     ـ لم يطلبوا منى شيئا آخر .. والظاهر أن الرسم لم يعجبهم ..
     ـ كلا .. كلا .. بالعكس ..
     ـ هذا .. ما حدث ..
     وشعرت بالشىء الذى يصرخ فى أعماقها ..
     وكنت أمشى الهوينا .. حتى لا أحرجها .. أو أجعلها تحس بأنها تعرج أو تمشى مشية غير طبيعية ..
     وكانت رقيقة وادعة .. وتتأبط حقيبة فيها بعض الكتب .. كأنها طالبة فى الجامعة ترافق والدها ..
     وكنت أحس بهذا الفارق الكبير فى السن وأخجل منه .. ولكنها كانت تمشى بجوارى مستريحة وكأنها وجدت من تأتنس بعشرته فرافقتها حتى ركبت الترام رقم 17 إلى الحلمية الجديدة ..
*** 
     ثم التقيت بها بعد ذلك بشهرين على التحديد .. عند أجزخانة الإسعاف وكنت أنتظر الأتوبيس الذاهب إلى الجيزة ..
     وكانت داخلة الأجزخانة .. وهى تسرع برغم عرجها .. ثم خرجت بعد دقيقتين كاسفة البال .. وفى يدها " الروشتة " ..
     وعلمت منها أنها تبحث عن كورامين لوالدتها .. ولم تجده فى معظم الأجزخانات .. وجاءت إلى أجزخانة الإسعاف .. وكلها أمل .. ولكن خاب ظنها ..
     وخطر فى بالى فى الحال صديق يعمل فى مخزن كبير للأدوية .. وكنت أستعين به فى أشد الأوقات حروجة .. ولكن بيته كان فى الحسين .. وخشيت أن أذهب إليه فلا أجده فى هذه الساعة من الليل .. ومع هذا حدثت سعاد عنه .. ورجوتها أن تنتظرنى فى بيتها ولكنها أصرت على أن ترافقنى فى هذه الجولة ..
*** 
     وركبنا تاكسى .. ووجدنا الصديق .. وجاء لنا بالزجاجة .. وطارت بها سعاد فرحا .. وأخذت تضغط على يدى .. مرة .. ومرة .. ولما علمت أنها وحيدة وأنه لا أحد يمرض والدتها ويعولها سواها رافقتها إلى البيت وكان من طابقين .. لاحظت أن النوافذ كلها مغلقة .. كأنه لا يسكنه أحد لم أجد غير امرأة عجوز .. وسمعت من يقول وأنا داخل :
     ـ الدكتور .. جاء ثانية ..
     وجلست فى الصالة وحيدا .. وطالعنى الصمت .. وكان بعض الجارات عند المريضة فى الدور العلوى .. ورأيت أثاث البيت نظيفا وكل شىء مرتبا كأنه معد لاستقبال ضيف .. ورأيت على الحائط صورة كبيرة لرجل فى الخمسين من عمره يلبس طربوشا وبدلة .. وكان طويل الوجه وله شارب مفتول .. وكأنما كان يسدد النظر إلىَّ ويتعقبنى أينما تحركت .. فلقد رأيت صورة نفس الرجل مصغرة .. ومكبرة .. وبالزيت .. وبالفحم .. فى أكثر من مكان فى البيت ..
     وجاءت سعاد .. بعد أن اطمأنت على والدتها .. تقدم لى كوبا من عصير الليمون .. وقالت لى فى رقة :
     ـ أتعرف أنك أول رجل يدخل البيت .. بعد وفاة والدى ..
     ورفعت عينيها إلى الصورة ..
     وفتحت فمى مدهوشا .. منذ عشرين سنة .. وهى محبوسة فى هذا البيت .. لم تشاهد رجلا ولم تسمح لرجل بأن يدخل عليها العتبة .. وكان جميع الجيران يعرفون طباعها ويحترمون ارادتها ..
     ـ ولكن لماذا تفعلين هذا ..؟
     ـ مات والدى فى شبابه خرج فى الصباح إلى عمله .. وفى الظهر عاد الينا محمولا على النعش .. ولما دفنوه لم أصدق أنه ذهب .. كان رجلا وكان يحبنى وكنت أعبده .. فأغلقت نوافذ البيت وأنزلت الأستار .. وتصورته يتحرك معى .. أينما ذهبت وها أنت تراه فى كل مكان ..
     ونكست رأسى ألما فلم أر فى حياتى أشد من هذا قسوة على النفس وتضحية ..
     ونظرت إلى الفتاة المسكينة وإلى مصيرها بعد أمها وذاب قلبى حسرات فقد علمت أن والدها لم يترك سواها .. وأن أهل والدها من دسوق ولكن صلتهم بها قد انقطعت منذ ثلاثين سنة .. ولا تعرف إن كانوا أحياء أم أمواتا ..
     وأصبحت أعطف على الفتاة وأزورها وأحمل لها زجاجات الكورامين .. وكنت أجلس فى غرفة صغيرة فى المدخل .. وأرى البيت المهجور .. ساكنا .. وجدرانه أكلتها الرطوبة .. وهواءه راكدا .. فاسدا ..
     وقالت لى الفتاة أن والدتها ضعف بصرها منذ أربعة شهور حتى أصبحت لا تستطيع أن تواجه النور ..
     وألح علىَّ الفضول لأرى هذه السيدة الغريبة فى النساء .. وجعلتنى سعاد أراها وهى مستغرقة فى الصلاة .. وكانت ترتدى وشاحا أبيض ..
*** 
     ومرت الأيام وزاد عطفى على الفتاة ووجدتها تتعلق بى وتندفع بكل عواطفها نحوى .. وكأنها وجدت فىَّ الأب الذى عاد بعد غيبة طويلة .. ووجدت نفسى بعد ثمانية شهور لا أستطيع الفكاك .. وأصبحت الفتاة تتحرك فى داخل الاطار الذى رسمته لها .. وكنت كلما أمسكت بيدها الصغيرة .. أحس بها ترتعش ..
     كانت تغالب الانفعال المكبوت ..
     وذات مساء .. وأنا أودعها على الباب .. بعد نزهة فى الخارج وجدتها ترتمى على صدرى .. وتشكو لى همها ..
     وفى يوم عبوس .. ماتت والدتها قبل الفجر .. ولم أترك الفتاة لرحمة الأقدار .. فتزوجتها وأغلقت بيتها فى الحلمية وجاءت إلى بيتى فى الهرم ..
     وقضينا الأسابيع الأولى بعد الزواج ونحن فى سعادة لا توصف .. ولكننى لاحظت .. أننى إذا ذهبت فى عمل إلى القاهرة .. أجدها واقفة على باب الفيلا .. تنتظر فى لهفة وقلق .. ومرة أجدها واقفة على رأس الشارع .. وكنت كلما أفهمتها أن هذا القلق لا مبرر له .. وأننى أخرج كأى إنسان إلى عملى .. وأعود كما يعود سائر الناس مرة فى الميعاد ومرة متأخرا .. ويجب أن تعوّد نفسها هذا .. كانت ترد على هذا الكلام بالبكاء المكتوم ..
     وأخيرا تركتها على طبيعتها ولكنها شلت حركتى .. وعملى .. أصبح قلقها يغيظنى ويثير أعصابى ..
     ورأيت أن أريحها من هذا العناء .. فانتقلنا إلى بيتها الكبير فى الحلمية لتعيش هناك ..
***
      انتقلت بلوحاتى .. وفتحت نوافذ البيت للنور والشمس .. وطلينا الجدران ولكن حبها لى يزداد يوما بعد يوم .. وأنا أشعر بسعادة ولكن أخاف أن يتحول هذا الحب إلى عبادة .. فترفع صورتى إلى جانب صورة المرحوم ..!!
     ولهذا كنت أهرب .. أهرب .. من البيت وأهرب من عواطفها الدافقة لأعيش .. ويعيش حبنا وتتحرك فرشاتى على اللوحة ..


===============================================
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
==============================================  





فهرس

اسم القصة                       رقم الصفحة
اكسير الحياة .........................  2
ذات ليلة من ليالى ديسمبر ...........   5
العازب      .........................   15
العودة من السوق ....................    24
الحياة البهيجة .......................    26
الضبع         ......................      38
عالم الأسرار   ......................     44
الساعة         ......................    48
العين الخضراء .....................     53
رزق من السماء ....................    65
الإشارة        ......................    69
دعوة إلى عرس ....................     77
فى الليل       ......................    83
معشوق النساء ......................    87
النافذة الخلفية  .....................   94
الجمال الحزين ....................    98
حفلة زفاف    ....................   108
رصاصة     .....................   115
فى المحطة   .....................   120
رسامة        .....................   126

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق