الجمعة، 17 أبريل 2015



الحياة البهيجة

كان المنزل فى شرق المزرعة مبنيا من طابقين بالحجر الأبيض المصقول وطليت جدرانه بالجص والمصيص .. وزينت واجهته بقوالب القرميد ودهنت الأبواب والشبابيك باللون الأخضر .. ووضع الزجاج الملون فى النوافذ الصغيرة ..
كان بالغ الروعة يبدو فى ندى الصباح وتحت أشعة الشمس البهيجة كأنه ضمخ بماء الورد وخلط بالتبر المذاب ..
وكان صاحبه قد أراده أن يكون منارة فى هذا التيه وبيتا نموذجيا لكل فلاح يزرع الأرض ويمتزج عرقه بترابها ..
وكان فرحا به فرحه بالمزرعة .. وكان السيد صلاح قد اشترى خمسين فدانا من شركة الأراضى .. تلك الأرض البكر الواسعة المساحات التى تقع بين أدفينا ورشيد .. وأخذ بحماسه يصلحها ويمهدها .. وقد تفرغ لها بمشاعره وجهوده ومنحها كل وقته وكل وجدانه ..
وعندما سوى التربة وأجال فيها المحراث .. وأقام الطنابير والسواقى بنى لسكنه هذا البيت الجميل وشيد حظيرة المواشى فى الجانب الغربى وجلب لها الأبقار والعجول .. وفعل كل شىء ليحس الناس بالعمران .. فى هذه القفار .. فى تلك الأرض العذراء التى لم يشق تربتها محراث ولم يخرج تبرها إلى الشمس ..
وكان الفلاحون قليلين جدا فى منطقة واسعة تتطلب الإصلاح والأيدى العاملة فنزح إليها الكثيرون من أهل الشرقية والبحيرة ومناطق الصعيد .. كانوا خليطا متنافر الطباع والعادات .. ولكن الأرض جمعتهم لغاية واحدة فظلوا يعملون ولكن دون تعاون .. كان كل فريق يحقد على الآخر .. فلم يتقدموا كثيرا .. كان بعضهم يسرق المحاصيل والمواشى من الآخرين .. ويتناحرون دون سبب معقول .. واعتمدوا على زراعة الأرز .. والبرسيم .. وكانت خبرتهم فى الأرز معدومة .. فجاءت الغلة قليلة وتبعث على اليأس ..
وكان أكثر الذين اشتروا الأرض من الشركة الأخيرة لا خبرة لهم باصلاح الأرض والزراعة .. فصرفوا الكثير من المال دون نتيجة ملموسة وتطرق إلى قلوبهم اليأس وتعبوا وعجزوا عن سداد الأقساط واستردت الشركة منهم أراضيها وضاعت عليهم نقودهم وجهودهم هباء ..
وبقى السيد صلاح مع عشرات من المشترين يكافح دون يأس ..
وكان باعتباره غريبا عن المنطقة ودخيلا عليها مبغوضا من مجاوريه فى الأرض ..
وفى السنوات الأولى التى أصيب فيها بالفشل فى الزراعة .. كانوا يتصورون أنه سيترك الأرض ويرحل .. فلما صمد ووجدوه يبنى البيت ازداد غيظهم .. وأدركوا أنه استقر نهائيا وحط الرحال ..
كانت الحياة جافة فى هذه المنطقة وموحشة فهى تبعد عن رشيد بمسيرة ساعة ..
ولكن صلاح استطاع أن يتغلب على كل الصعاب ويحولها إلى روضة وكانت الزراعة الأصلية فى المنطقة هى الأرز والشعير والخضر ..
ولكن الاعتماد على الأرز كان كليا ..
وكان صلاح شديد التعلق بالأرض والفلاحة منذ الصغر لأنه انقطع عن الدراسة فى سن مبكرة ولازم والده فى الفلاحة .. فلما مات الوالد حل محله وأصبح كبير الأسرة وعائلها .. فلما تزوجت أختاه وتوظف أخوه الأصغر فى الحكومة .. استقل بنفسه وانفصل عن الأسرة ..
وأخذ يوسع من دائرة عمله .. فرحل عن بنى سويف مسقط رأسه حيث المجال ضيق للعمل والتكسب واتجه إلى الأراضى الواسعة لينمى ثروته ..
وعرف ـ لكثرة تردده على الإسكندرية لشراء الآلات اللازمة للزراعة واصلاح الأراضى ـ أسرة متوسطة الحال فتزوج من الابنة الوحيدة لهذه الأسرة ..
وكانت فتاة جميلة فى الثانية والعشرين من عمرها بديعة القوام ولكنها تبدو فى معظم الحالات شاحبة الوجه مريضة كأن شيئا ينقصها ..
وكان صلاح يتصور أنها بعد أن تمضى شهورا فى هذا البيت الجميل فى الريف .. سيذهب هذا الشحوب عن وجهها ويكتسى خداها بالنضارة ولهذا أعد كل شىء فى البيت لراحتها واستقبالها ..
وكان كل مايحيط بالبيت من مناظر جميلا .. كان السكون شاملا  وكانت الزراعة تكتسى بحلة وردية فى ضوء الشمس ..
وكان يقضى معظم الفراغ فى المزرعة .. وقد شغل بالنباتات الصغيرة .. فبدت الأرض كبساط من السندس .. ومنذ جاءت الزوجة إلى الريف وصلاح مشغول بها ..
كان يحب زوجته إلى درجة العبادة ويحرص على راحتها .. وجلب المتعة والهناء لها .. وكان يذهب بها إلى الإسكندرية من حين إلى حين .. لتزور أهلها وليشاهدوا بعض الأفلام السينمائية .. كان مرضها قد جعله شديد العطف عليها والرعاية لها .. ولكن برغم كل هذا العطف .. فقد مرضت الزوجة مرضا خطيرا .. ولما ساءت حالتها نقلت إلى المستشفى ..
وظل صلاح فى الإسكندرية ليكون بجوارها .. وكان يلازمها فى النهار وجانبا من الليل .. وعندما يخرج من المستشفى فى الليل .. كان الألم يعصر قلبه ويمزق فؤاده وتعاف نفسه عن الطعام .. فيروح ويجىء على غير هدى فى شوارع المدينة .. ثم يستريح فى مقهى على الطريق وهو شاعر بالحزن والوحدة المرة .. كان يحب زوجته ويشعر بالسعادة لوجودها ولما همس الطبيب فى أذنه .. وعرف المرض وسمع كلمة السرطان انتفض رعبا .. كان يسمعها من قبل ولا يعرف معناها الحقيقى .. أما الآن فقد أدرك مضمونها وما تحتويه من سم وعذاب ..
*** 
أحس بالألم يغشى عينيه وأخذ زجاج المقهى الذى يطل منه على الطريق ( يدكن ) أمام بصره .. ويسود ولم يعد يرى ماحوله .. وأدرك أنه لو بقى فى مكانه سيصيبه الشلل .. فدفع الباب وخرج .. ومال إلى طريق البحر .. كان ليل الإسكندرية دافئا .. وكانت الأنوار تلقى ظلالها على الماء .. والبيوت تبدو ساكنة كأنها تنتظر شيئا يحدث فى أخريات الليل ..
كان يتوقع موتها فى هذه الليلة وفى الساعات الأخيرة كما يحدث فى كل الحالات وكان خياله السابح يصور له أن المدينة كلها تتوقع هذا النبأ المفجع ..
وكان حسه الغريزى يحركه .. بأن يتلمس النجاة لأعصابه .. بأى سبيل ليخفف من وطأة المسألة وقد أحس بها تتمزق ..
ولمح وهو يسير وسط ضباب الليل .. أنوار مرقص ومضى فاتجه إليه مسرعا خشية أن يعدل عن رأيه ..
ولما جلس فى المكان وسمع صوت الموسيقى ورأى الراقصة تنثنى تحت الأنوار الخافتة أحس بالراحة وذابت الأحزان إلى حين .. وعاد الأمل فى الحياة .. وطاف برأسه الأمل فى أن تبرأ زوجته من العلة وتنجو وتعود إلى البيت الذى بناه لها .. فيكون مستقرا لهنائهما .. وتراه وهو ينمو ويكبر ويكون أسرة من بنين وبنات .. ومنهم من يبقى فى الزراعة ليواصل عمل أبيه ومنهم من يتخذ سبيلا آخر للعيش ..
وعندما أشعل لنفسه سيجارة ثانية أحس وهو يرمى بالثقاب بعينين نديتين تحدقان فيه .. وكانت الراقصة جالسة هناك وحدها إلى مائدة مستديرة وأمامها كوب قد فرغ نصفه .. وبين أناملها سيجارة لم تأخذ منها نفسا واحدا .. وتركتها تحترق وحدها ورمادها يتساقط على المفرش وكانت قد فرغت من الرقص ولبست ملابسها العادية .. أو لعلها لم ترقص قط فى هذه الليلة ..
وجلست تحدق فى وجه صلاح بعينين فيهما من الفضول أكثر مما فيهما من التأمل .. ولاحظ عينيها .. فجاوبها ببسمة شاحبة .. ثم بأمل فى اللقاء .. وبعد دقيقة واحدة كانت الراقصة تجلس بجواره وتحادثه .. لم تكن صغيرة السن ولكنها كانت جميلة المحيا ناضجة الأنوثة .. ومحدثة لبقة وبعد قليل من الوقت أنسته أخزانه وعرف الكثير عنها .. عرف أنها أسبانية وأنها تركت المدرسة منذ صغرها واحترفت الرقص ولفت الدنيا كلها .. وجاءت أخيرا مع الفرقة إلى القاهرة .. لتقضى أسبوعا واحدا ..
وسألته برقة :
ـ لماذا تبدو حزينا ..؟
ـ زوجتى مريضة .. وربما ماتت هذه الليلة ..
ـ ولكن الحياة بهيجة وماذا يجدى الحزن ..؟!
ـ هذا صحيح .. ولكنى لا أملك من نفسى إلا أن أحزن .. فلأول مرة فى حياتى أرى الموت يدخل بيتى .. ولهذا أخاف ..
كانت حالته تعسة حقا .. وأحست بالشفقة عليه ..
 فسألته :
ـ بعد أن تخرج من هنا .. إلى أين تذهب ..؟
ـ لآ أدرى .. فليس بى رغبة فى النوم قط ..
ـ هل تسمح أن أبقى بجوارك .. هذه الليلة ..؟
ـ يسعدنى كثيرا ..
ـ إذن فكر فى مكان نقضى فيه الليل هنا .. نتجاذب أطراف الحديث فليس لى رغبة فى النوم مثلك ..
وفكر فى غرفة مفروشة عند سيدة أجنبية فى اسبورتنج كان ينزل فيها من حين إلى حين قبل أن يتزوج .. وركبا سيارة أجرة إليها ..
*** 
ولما ضمتهما الغرفة .. وخلعت فستانها وبقيت فى قميص نومها رأى نعومة بشرتها .. وسواد شعرها .. وجمال عينيها فى ظل المصباح الأزرق .. وكانت الحجرة هادئة ومنسقة كعهده بها .. وفواحة بعطرها الأنثوى هذه المرة .. كان جسمها ناصع البياض وعيناها سوداوين متألقتين متعطشتين للحب الهادىء .. ولكنه وجد نفسه لايزال حزينا .. وميت الرغبة .. ومتأثرا من مجرد التفكير فى أن يخون زوجته وهى لاتزال حية تتنفس ..
نظر إليها وأخذ يدخن وكانت واقفة تنظر عبر النافذة إلى البحر .. وقالت وهى تستدير فى خفة :
ـ بلادكم جميلة ..
ـ هل أعجبت بها حقا ..
ـ جدا .. كم هى جميلة ..!
ـ وهل رأيت القاهرة ..؟
ـ سنذهب يوم الخميس .. ومنها نعود ونركب البحر .. هكذا خلقنا ..
وأحس فى صوتها بالمرارة .. فسأل :
ـ هل تأسفين على شىء ..؟
ـ أبدا .. هكذا أعيش .. وهكذا الحياة ..
ـ أجل .. هكذا الحياة ..
ـ ما الذى تفكر فيه ..؟
ـ أفكر فى زوجتى المريضة .. وفيك .. وفى الليل .. والحياة ..
ـ ما الذى تعمله ..؟
ـ أننى فلاح ..
ـ وتزرع القطن ..؟
ـ أزرع القطن والأرز .. وكل ما سترينه فى الطريق إلى القاهرة ..
ـ ولم تذهب إلى الكلية ..؟
ـ خرجت منها إلى الزراعة .. منذ عشر سنوات وأنا أفلح الأرض وأشتم ترابها ..
ـ وهل كونت ثروة خلال هذه السنوات ..؟
ـ أجل ولا بأس بها بالنسبة لرجل فى الثلاثين ..
ـ وعندك أولاد ..؟
ـ لم نرزق بعد .. وهذه أمنيتنا .. أنا وزوجتى .. وأرجو أن تشفى .. ليكون لنا ولد ..
ـ ستشفى ..
ووضعت يدها على جبينه ولمست شعره .. فأحس بالراحة لنعومة أناملها .. وبالراحة أكثر لأنه اشتم عطرها وأنفاسها الحارة ـ وكان حزينا ويائسا ـ فقرب رأسه من صدرها .. وأحس بحنانها فى محنته ولم يكن فى حاجة لأكثر من هذا الحنان ..
***
وفى الصباح فكر فى أن يضع لها ورقة مالية فى حقيبتها فقد منحته ساعات طويلة من وقتها .. ولكنه رأى أن هذا العمل سيجرح شعورها .. ويذل أنوثتها .. فاختار أن يشترى لها هدية ويرسلها إلى الفندق الذى تنزل فيه .. واستراح لهذه الفكرة ..
ولما ذهب إلى المستشفى علم أن زوجته قضت نحبها فى أخريات الليل وطير الخبر صوابه .. وظل مذهولا جامدا فى مكانه لا يدرى ماذا يفعل حتى نقلت الممرضة الخبر إلى أهل الميتة وجاءوا على عجل وهنا أحس بأن الحياة تجرى من حوله ..
وبعد تشييع الجنازة ركب سيارة أجرة إلى مزرعته .. وهو يحس أن شيئا عزيزا عليه قطع من جسمه فجأة بحد السكين ..
*** 
وظلت الأيام تجرى كئيبة فى البيت وفى المزرعة .. كان الحزن يغشى نفسه بمثل الضباب .. وفى تيه من الضباب كان يعمل بنفس حزينة ..
*** 
وفى فجر يوم سمع نباح الكلاب فى المزرعة بشكل ملفت للنظر .. فأطل من النافذة .. فرأى فى العتمة شيئا يتحرك هناك فى الأرض القفر وسمع ضربات رتيبة كضربات المعاول .. ثم رأى فى وضح الصبح بيوتا ثلاثة من الشعر تنصب هناك حيث دقت الأوتاد .. ورأى خارج البيوت .. نساء ورجالا وأطفالا .. وكل يقوم بعمل .. فأدرك أن جماعة من الغجر .. حطت رحالها .. مع مطلع الصبح ..
وكان الجو شتاء ويميل قليلا إلى البرودة .. فى الصباح .. والمساء ولكن فى فترة الضحى .. كان الجو دافئا ..
وكانت أسراب من الطير تعبر البحر .. قادمة من أوربا .. وتتجه إلى الجنوب .. كانت تأتى فى أفواج كبيرة وتحط على الأرض الملحة فى البرك والمياه الضحلة .. ثم تحلق .. بعد أن تأخذ حظها من السمك ..
وفى هذا الجو الملىء بالطير والخالى من الإنس .. حطت فى المكان قافلة من الغجر .. وأطلقت العنزات والنعاج ترعى .. وربطت حمارتين بجانب الخيمة .. وكانت القافلة مكونة من ثلاثة رجال وخمس نسوة .. وكان زعيم القافلة .. طويل العود كبير الجرم ..
ووقفت فتاة سمراء على عتبة الخيمة ..
ولم يتمالك كل من رآها من الفلاحين نفسه من الاعجاب بها ..
وكانت سمراء طويلة ترتدى حرملة ودثارا من الصوف وتطل بعينين سوداوين كبيرتين على الدنيا البهيجة ..
منذ حطوا الرحال فى المكان المقفر وأشاعوا فيه الحركة والحياة .. كانوا فى النهار يبيعون ويشترون من الفلاحين .. وفى الليل يغنون غناء شجيا .. وترقص فتاة على الدف والناى رقصا مثيرا يبهر الألباب .. 
كانت وجوههم دائما ضاحكة منبسطة فى معاملتهم وحديثهم مع الفلاحين ولم يكونوا يحزنون لشىء أبدا .. ولا يأسون على شىء ضاع أو شىء ولى .. كانت الحياة بالنسبة لهم هى فى عمل اليوم وما يأتى به الغد .. أما الأمس فلم يكونوا يفكرون فيه أبدا ..
وكان من بينهم شاب قبيح الوجه .. وكان يغافل الفلاحين ويسرق طيورهم ونعاجهم بخفة وبراعة تثير الفزع ولكن أحدا من الفلاحين لم يفكر فى أن يشكوه للبوليس .. لمرح الشاب وخفة روحه ..
وكانوا فى الليل يوقدون النيران للطعام والدفء .. وبعد العشاء .. تظل النيران مشتعلة .. ويدور الرقص ويسمع صوت الناى .. كأنه ينادى عبر القرون كل من ذهب من الأحياء ..
وتأملهم صلاح فى معاشهم وحياتهم وأحس برعشة .. أنهم يعيشون حياة بهيجة ضاحكة كلها كد وعمل فلماذا يموت هو من الحزن .. ونظر إلى فتاتهم السمراء الطويلة .. كانت نرجس جميلة جذابة وكانت ككل الغجريات يحيط بها جو من السحر والغموض .. وأحس لمرآها بهزة فى كيانه ..
كانت الفتاة تجلس خارج الخيمة لتغزل خيوط الصوف ..
وكانت فى الفترة التى يغيب فيها زعيم القافلة والرجلان الآخران عن المكان متجولين ببضاعتهم بين الفلاحين تقوم هى بالعمل مع أمها فى داخل الخيمة وخارجها ..
وعندما تقف أمام الخيمة وتثبت عينيها على وجهه كان يحس بقلبه يدق بشدة ..
وذات مساء وكان صلاح فى قلب الحقل أحس بأن شخصا خلفه فالتفت فرأى نرجس ..
وكانت قد تخطت الحقل .. واقتربت من الطنبور .. وكان بيدها سطل .. فأسقطته فى الماء .. وملأته وانثنت .. لتمضى فى وجهتها .. وكانت الريح تهب شديدة وتحرك الزرع الصغير ورؤس الأشجار وتدخل منازل الفلاحين تهز نوافذها وأبوابها ..
وأحس صلاح بعد أن ذهبت نرجس بالفراغ .. وبأنه فى حاجة لأن يستأنس حتى بصوت الذئب .. ووجد فلاحا يعرفه يعبر الطريق فاستوقفه وسأله :
ـ إلى أين يا عمى حمدان ..؟
ـ ذاهب لأشترى كيلة من البرسيم ..
ـ تأخرت فى الزراعة ..؟
ـ لقد رميته مرتين .. وأكله الدود ..
ـ وهذه الثالثة ..؟
ـ أجل الثالثة التى أرمى فيها البذر ..
ـ والبرسيم غالى لهذا السبب ..؟
وابتسم صلاح .. وكان الفلاح يضحك ويتلقى عوامل الطبيعة كشىء طبيعى ..
وسأله صلاح :
ـ كم تزرع ..؟
ـ فدانين .. فدانين هناك على حدود الطريق ..
ـ أتبيعها .. أو تبيع منهما فدانا .. سأعطيك فى الفدان أربعمائة جنيه ..
ـ ولماذا أبيعه ..؟
ـ لأنك تعبت .. أتعبتك الأرض بغدرها .. الأرض تغدر كالنساء تماما .. وتحتاج فى هذه السن وأنت عجوز إلى الراحة ..!
ـ هل أبيع قطعة من لحمى بالسهولة التى تتصورها .. إنها جزء من كيانى ووجودى فى الحياة وقد امتزج عرقى بترابها .. واشتمت أنفاسى رائحتها .. ومنذ خمسين سنة وأنا أزرع الأرض ويأكل الزرع الدود .. والهلوك .. وينزل عليه المن .. وهذا كله اعتدته .. أسوى التربة وأزرع من جديد .. ولا أقنط من رحمة الله ..
ولم يعجب صلاح من كلام الشيخ العجوز .. ولكنه أدرك الآن لماذا جلد الفلاح المصرى واحتفظ بطابعه الأصيل على مر السنين ..
ومضى الفلاح فى طريقه ثابت الخطوات حتى غاب عن البصر ..
*** 
وجلس صلاح هناك على جذع شجرة .. يتأمل المساء وهو يزحف ويلف الكون فى شمله ..
وكانت عيناه تستقران على خيمة الغجرية ..
ورأى الكلب رابضا خارج الخيمة وعنزات ترعين .. والقدر تغلى على النار .. وكانت تغطى الخيمة لفحات من الهباب .. وكانت الزرازير تطير وتحط على سقف العريشة ..
واقترب صلاح من المخيم .. وأخذ يحادث المرأة التى تحرك القدر وتغذى النار .. يسألها عما عندهم من بضاعة .. وانفرج باب الخيمة وظهرت فتاة طويلة .. ظهرت نرجس ..
وانبسطت أسارير وجهها بعض الشىء لما رأت صلاح .. وحادثتها أمها قليلا ثم غابتا معا فى الداخل .. وظهرت الفتاة بعد لحظات وحدها ..
ـ أين أمك ..؟
ـ ستأتى لك بالأشياء التى طلبتها ..
ـ وهل هى جميلة .. وتستأهل الشراء ..؟
ـ بالطبع .. أجمل ما فى السوق .. تجده عندنا ..
ـ يعنى أشترى وأنا مطمئن ..؟
وأشرق وجهها الصغير كوجه الطفل .. قالت باسمة :
ـ اطمئن تماما ..
وخرجت الأم واشترى أشياء كثيرة وذهب ..
وأصبح يعرج كل يوم إلى خيمة الغجرية .. كان جمال نرجس هو الذى يأسره ..
وشغلت حياته ونسى فى صحبتها أحزانه .. وكاد ينسى زوجه الراحلة ..
وكان يرى الغجر متعاونين فى السراء والضراء فما تعاركوا قط ولا نشب بينهم خلاف وإذا اشتعلت النار فى مخيمهم أخمدوها فى ساعات .. بل فى دقائق بتعاونهم .. وإذا غابت عنهم دابة .. بحثوا عنها جميعا ..
وبمثل هذا التعاون .. عاش الفلاحون فى الريف من قبل .. وبارك الله لهم فى رزقهم .. أما الآن فإنهم يتشاجرون وفى قلوبهم مرارة الحقد ..
الفلاحون أكثر من غيرهم فى الصعيد والدلتا .. وفى كل البلاد .. وبدل أن يتعاونوا اختلفوا ولما اختلفوا انتزعت البركة منهم ..
لقد كان الأسلاف أكثر تعاونا ..
فى الأعياد .. وفى رمضان .. وفى الجنائز .. والأفراح .. كانوا يتعاونون معاونة صادقة .. ولكن هذه الأشياء أخذت تمحى من الريف .. فيجب أن تعود ويعود التعاون وتنمحى الأحقاد ويعيش الناس فى مودة ..
 طافت هذه الخواطر فى رأس صلاح ..
*** 
   ثم رجع يفكر فى نرجس .. كان جمال نرجس يخلب لبه .. وكانت تحدث أشياء فى الكون ويعجب .. إذ تسأله عنها .. كأنها تطالع الصحف فى الصباح والمساء وتستمع إلى الراديو مع أنه لم يشاهد عندها أى جهاز من هذه الأجهزة ..
كانت تسأله فى بساطة عن الصواريخ والأقمار الصناعية والظواهر الطبيعية وهو فى عجب من أمرها ..
وذات ليلة وقفا صامتين وكل منهما ينظر فى وجه الآخر وقد غمرتهما السعادة ..
كانت لحظة صامتة أسعد ما مر بهما فى الحياة .. ولم يحسا قط بمثل ما بلغاه من نشوة .. وقرأ فى عينيها الاعتراف الصادق بالحب ..
وفى الصباح التالى لم يجد خيام الغجر فى مكانها .. قوضوها وارتحلوا فى وجه الفجر ووجد آثارهم على الرمال .. وحلقا طويلا متدليا سقط من أذن نرجس .. وتناوله بين أنامله برفق وقربه من شفتيه ..



====================== 
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 1419 بتاريخ 3/1/1962 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
======================







الضبع

كان الوقت بعد الغروب .. وكان الفلاحون عائدين بمواشيهم من الحقول .. وكان المزارع طاهر واقفا فى مدخل القرية يرقب الأغنام وهى متجهة إلى الحظيرة ..
وكان طاهر يملك مزرعة كبيرة فى إحدى قرى الصعيد .. ويعنى بتربية الأغنام عناية فائقة حتى اشتهر بها ..
وكان قد أعد لها حظائر واسعة بجانب البستان الذى يملكه .. ووقف على رأس الدرب يرقبها وهى تنحدر عن الجسر .. فى قطعان .. وأرجلها تثير الغبار .. وكان يحصيها بعينيه ويخص الرؤوس الكبيرة منها .. قبل أن تدخل عتمة الغسق ..
وكان فى وقفته مزهوا لأنه يملك كل هذه القطعان ..
وكانت ريح الشتاء تسفع وجهه .. وعيناه تبرقان .. وهو ينظر أمامه .. وحوله ..
وكان فى الواقع ينظر إلى السياج .. ويتطلع إلى الغنم فى داخله .. وكان السياج يرتفع عن الأرض بمقدار مترين ونصف متر ..
وكان طاهر يعاينه ببصره ويرقب البستان من ورائه وكل شىء يحيط به ويود أن يعرف الطريق الذى يسلكه اللصوص لسرقة الغنم والمنفذ الذى نفدوا منه إلى الداخل .. وكانت حوادث السرقة قد تكررت فى الشهور الأخيرة .. حتى فكر طاهر أن يضع حدا لها .. وكان يعرف أن اللصوص من أهل الحى وغالبا من شبابه لأن الكلاب لا تنبحهم .. والكلاب عندما تعود من المراعى إلى البيوت تصبح مستأنسه .. ولم يكن يحب أن يطلق الرصاص على أحد من أهل قريته .. مهما كان الشىء المسروق .. وكان متنورا لايحب أن يقابل الإساءة بمثلها .. وكان يغفر لهؤلاء جهالتهم .. وأخيرا أشار عليه بعض أصحابه بأن يأتى بكلب من أرمنت لحراسة الحظيرة ..
***
وفى غروب يوم .. شاهد أهل القرية .. شيئا أسود ضخما يتحرك على الجسر وكان مكمما ومربوطا فى سلسلة من الحديد .. وكان الشخص الذى يجره يلاقى العنت والمشقة من شده مراس الكلب وقوة شكيمته ..
وكان يتحرك على وقع الكلب وخطوه .. وكان هذا يسرع فى مشيته .. وهو ينظر إلى أمام غير معير بصره للفلاحين .. الذين تجمعوا على الجسر لمشاهدته ..
وعندما انحرف به الشخص الذى يمسك به .. وغاب فى طيات الدرب .. طواهما الظلام معا ..
وصاح أحد القرويين :
ـ إنه ضبع ..
ومن وقتها أصبح ضبعا .. وأطلقوا عليه " ضبع طاهر " ..
وكان طاهر يربطه فى النهار فى فناء البيت .. وفى الليل يطلقه فى الحظيرة .. وانقطعت من اليوم الأول لوجوده كل حوادث السرقة .. ولم يجرؤ إنسان أو حيوان على الاقتراب من عرينه ..
وفى الليلة الأولى التى أطلق فيها من سلسلته .. تجمعت عليه كلاب الحى لتقاتله .. وزمجر فيها محذرا منذرا .. وهو رابض فى مكانه .. دون أن يتحرك .. ولما رآها غير مكترثة .. هجم عليها وضرب أول كلب بكفه .. ومرغ الثانى فى التراب .. ثم نفضه .. وتحول إلى الثالث .. يهاجمه بعنف ..
ووقف الفلاحون مشدوهين أمام أعظم صراع شاهدوه فى حياتهم .. وهم يفركون أيديهم من العجب .. فقد طارت الكلاب كلها .. ووقف الكلب الرهيب وحده مزهوا بانتصاره .. يفحص برجله فى الأرض ويثير الغبار .. متحديا ..
وشاع الخبر فى القرية وعرف الناس أن كلب طاهر الأرمنتى قاتل كلاب القرية كلها وانتصر عليها وحده ..
وخاف أهل القرية من الكلب .. وكانوا يبتعدون عنه ليتقوا شره .. وانقطعت من حوله الرجل .. حتى فى الوقت الذى يكون فيه مربوطا بالسلاسل ..
وكان الفلاحون الذين اعتادوا صلاة الفجر فى مسجد القرية يسلكون طريقا آخر بعيدا عن سكته ..
وظل الكلب فى حراسته الليلية وقد ابتعدت عنه الكلاب .. والناس .. وكان قد كون ألفة بينه وبين الغنم التى فى الحظيرة .. وكان طاهر يعنى بطعامه وشرابه عناية زائدة ..
ولم يكن يضايقه إلا الفترة التى يحبس فيها فى البيت .. فإن الصبى منير وهو الابن الأصغر لطاهر كان دائب المعاكسة للكلب وهو مربوط .. وأحيانا يضربه بالعصا ويجرى وأحيانا يرميه بالطوب والحجارة من بعيد ..
وكان الكلب يتحمل هذا بصبر شديد وعيناه ترميان الغلام بالشرر ..
وكانت أم الصبى .. تسمع زمجرة الكلب .. فتجرى وتتناول العصا من يد الغلام .. وتبعده عن المكان .. ولكن الغلام كان يعود  إلى الكلب فى غفلة من أمه .. ليعاكسه من بعيد ..
واشتد الضرب ذات يوم حتى قفز الكلب وكاد يقطع السلسلة .. فقد ضربه الغلام بحجر فى عينه اليسرى ففقأها .. وسال منها الدم ..
***
وعندما أطلق الكلب فى الليل كالعادة ليحرس الحظيرة هام على وجهه ولم يبق فى الحظيرة ..
وغاب أياما عن القرية حتى ظنه الناس قد اختفى إلى الأبد ..
ثم ظهر فجأة فى عصر يوم .. وكان الصبى منير يلعب مع بعض الصبية بجانب الترعة ..
فهاجمه الكلب وبرك عليه .. وأنشب فيه أنيابه .. وصرخ الصبى ثم غاب عن وعيه .. وذعر الصبية وفروا هاربين ..
وحلقوا للغلام رأسه فى الحال وغسلوا له الجرح .. وسقوه .. ماء .. ليذهب عنه الروع ..
ولكن ذلك لم ينفعه .. فقد ظهر عليه سعار الكلب .. ومات منير ذات ليلة قبل نقله إلى المستشفى ..
*** 
وحملت والدة الغلام الطفل على صدرها وهو ميت ودارت به فى جنبات البيت وهى تصرخ .. ولم يستطع إنسان حتى والده أن ينتزعه من صدرها ..
وفى الليل .. لما جفت دموعها .. وبح صوتها وانقطعت أوتاره .. حملوا الغلام عنها ودفنوه .. ومشت القرية كلها فى جنازة الطفل ..
*** 
وفى الليلة نفسها خرجت القرية ببنادقها تبحث عن الكلب لترديه .. وكان الليل قد اشتدت ظلمته فأمسى من الصعب أن يتبين القوم مما حولهم شيئا ..
فأخذوا يطلقون النار على كل شىء يشاهدونه يتحرك فى الظلام .. أطلقوا النار على الكلاب .. وعلى الثعالب .. والذئاب وحتى على القطط البرية .. ولكن رصاصة منها لم تصل إلى الكلب المسعور ..
***
وخرج فى الليلة التالية ثلاثة من أشداء الفلاحين ببنادقهم بحثا عن الكلب .. وتفرقوا فى المزارع .. وبين غيطان القصب .. كل اتخذ له طريق .. وعاد اثنان منهم إلى القرية ووجد الثالث فى الصباح فى أحد الغيطان ميتا .. وكان صدره يدمى .. ولما انحنى عليه الفلاحون وحسروا القميص عنه شاهدوا كف الكلب ومخالبه قد تركت آثارها ..
وأحس أهل القرية أن شيئا جديدا وغريبا وجبارا .. قد نزل بحياتهم بظهور ذلك الحيوان .. شيئا خيم على سماء حياتهم فأشاع فيها الخزف .. وانتزع السكينة من نفوسهم ..
وكان طاهر صامتا وهو يدخل البيت .. ويخرج منه ..
وكانت زكية زوجته تسدد إليه نظرات قاتلة فقد شعر بانخذال لم يشعر بمثله فى حياته .. وكانت زوجته قد حرمت على نفسها الطعام والشراب .. وحتى الكلام .. ولزمت الصمت ..
وكان يطرق سمعها فى الظلام .. ومن خلال أشجار النخيل والبساتين والحظائر القائمة .. أصوات الفلاحين .. ونباح الكلاب .. ودوى الرصاص ..
وكان زوجها جالسا هناك فى مدخل البيت .. وكان يود أن يخرج فى الليل ولكن عقله كان يمسكه عن المسير .. فما جدوى السير فى الليل والظلام ..
ومرت لحظات رهيبة لحظات كخطف البرق .. سمع صوت الكلب وهو جالس ..
وكان صوته أشبه بالنفير .. من وراء الحقول ..
ولم يلبث وجه طاهر أن التهب كله .. وسرت الحرارة فى معارقه .. وراح يتصور الكلب تحت جنح الظلام .. وهو يقبع هناك .. عاويا .. جائعا وقد أصابه الهزال .. ولو أنه مسعور ..!
وتناول بندقيته وتقدم وفتح الباب وأطل على الليل ..
وخرج على الجسر يجوس خلال الظلام مخففا من وقع أقدامه مترقبا منصتا .. وكانت الهواجس والأخيلة تملآن فراغ عقله .. والريح تصفر بجانبه .. والغيطان تبدو غارقة فى مثل القار الأسود .. وسمع هوهوة .. كلب .. فتجمع .. وارتكز .. على الأرض ..
ولكنه أدرك أن كلبه لا يهوهو .. هكذا كالكلاب الضالة ..
فعاد يسير .. وما لبث أن استراح .. على جذع نخلة بعد أن وجد عقله يمسكه ..
وأشعل سيجارة وهو يحدث نفسه ..
ـ ما أحسبنى .. سأهتدى إليه أبدا .. فما الفائدة ..؟
ثم مضى فى طريقه وهو يقترب من تلال الجبل القريب من القرية .. وكانت آثار أقدامه بارزة فى الطريق ..
ولم تعد مشيته مشية الذاهل .. ولمع البريق فى عينيه ..
ورأى شيئا أسود يسير هناك .. رآه .. رأى الكلب بعينه .. انه هناك .. وانبطح على الأرض وخرجت منه طلقة .. وخيم بعدها السكون ..
***
ولم يعد طاهر إلى بيته وخرج الفلاحون يبحثون عنه .. ولم ينتهوا من بحثهم حتى الفجر ..
 ثم رآه أحدهم كأنه جالس .. وبجانبه بندقيته وبجواره شىء آخر ولعله الحيوان الذى كان يطارده ..
ولما فحصوا طاهر وجدوا صدره يدمى .. وبدا لهم أن الضربة جاءت من الأمام ومن مخلب ذلك الحيوان وحين حركوا الرجل وجدوه ميتا ..
وحين قلبوا جثمان الحيوان وجدوا الحقيقة الرهيبة .. وجدوه ضبعا .. ضبعا حقيقيا ..
وكان المشهد الرهيب يذهب بألبابهم ..
وأدركوا ما فعله طاهر .. وأن الحيوان الآخر المسعور .. قد انطلق فى البرارى وعليهم أن يطاردوه فى يوم آخر ..



====================== 
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1240 بتاريخ 11/3/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
=======================
  










عــالم الأسرار

    
    فكرت ـ أثناء المشروعات الجديدة لبنــــــاء المســاكن ـ أن أبنى لنـفسى  فيـلا"  صغيرة فى ضـاحيـة مـصر الجديدة .
     وكان لى زميل فى الدراسة برع فى المعمار .. وغدا من أشهر وأنبغ المهندسين فى المدينة ..
     وكانت تستعين به معظم الشركات والبيوتات الكبرى ليتحايل بفنه على الحد المقرر لارتفاع المبانى حتى أصبح لايشق له غبار فى هذا المضمار ..
     وذهبت إليه عصر يوم فى مكتبه بشارع الانتكخانة .. واستقبلنى مرحبا ولاحظت أنه لايستعمل يده اليمنى وهو يكتب أو يقرع الجرس أو يتحدث فى التليفون ..
     ولم أسأله عن السبب .. ولكن عندما ترك مكتبه وجلس بجانبى لنشرب القهوة وحدثته عن الفيلا ..
     قال :
     ـ سأعطى الفكرة لمساعدى وهو الذى يعمل لك الرسم وأراقب أنا التنفيذ ..
     ـ وأنت ..؟
     ـ لقد خلعت ذراعى ..
     فنظرت إليه جزعا
     وقال وهو يشير إلى النافذة :
     ـ خلعها هذا الرجل الذى هناك ..
     ونظرت فلم أر شيئا فى الشارع
     فسأل :
     ـ ألم تره ..؟
     ـ لا .. ليس أمامى سوى ضريح ..
     ـ إنه هو ..
     ونظرت متعجبا
     ورأيت ضريحا صغيرا قد طلى بناؤه وشباكه الصغير وبابه بالدهان والزيت على أحسن صورة .. ووراءه عمارة حديثة عالية قد أخذ فى بياضها وزخرفتها من كل جانب ..
     وكان الضريح يشغل الجانب الأيمن من العمارة .. وحوله فضاء على شكل دائرة .. وتراجعت العمارة عن الشارع بما يزيد على ثمانية أمتار .. اكراما للضريح .
     وقد عجبت حقا من حدوث هذا فى القرن العشرين ، فالعمارة لولا هندسة صاحبى وبراعته تكاد تكون مشوهة بالجزء الذى اقتطع منها وترك حول الضريح .
     وأخذت أقدر بالأمتار المساحة التى تنازل عنها صاحب العمارة طواعية منه إكراما للضريح فى هذه المنطقة الحيوية التى يباع فيها المتر بالمئات وتؤجر فيها الغرفة الواحدة بعشرة جنيهات .
     وسألت صاحبى :
     ـ هل صاحب العمارة هو الذى ترك مكان الضريح ..؟
     فقال :
     ـ لا .. لم يخطر لنا الضريح على بال عندما شرعنا فى البناء .. ولما جاءنى المقاول لنعاين المكان .. ونضع التصميم .. كان فى مكان هذه العمارة منزل من أربعة طوابق وهذا الضريح .
     ولم نفكر فى الضريح اطلاقا .. وأزلناه ونحن نضع التصميم كلية .. وأعطيت الرسم للمقاول للتنفيذ .
     ولكن الرجل جاءنى بعد عدة أيام وقال لى إن العمال حفروا الأساس فى قطعة الأرض كلها وأبقوا مكان الضريح .. فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منه .
     وكلمـا شـرعوا فى إزالتـه شلت أيديهم أو حدث لهم حادث ..
     فسألت المقاول :
     ـ هل تعرفون اسم صاحب الضريح ؟
     ـ أبدا .. انه رجل مجهول ..
     ـ هل نخضع للخرافات .. ونشوه العمارة .. ونحمل صاحبها خسارة الآلاف من الجنيهات من أجل ضريح لإنسان مجهول .. هذا تخريف .. يا معلم أحمد .. هذا الضريح يزال غدا ..
     وتركت المقاول وأنا فى حالة من الغضب والعجب لبساطة هؤلاء العمال ..
     ولكن المقاول لم يزل الضريح ..
     لأن العمال الذين شرعوا فعلا فى إزالته سقط واحد منهم من فوق السقالة وكادت أن تدق عنقه وحلت مصيبة بعامل آخر ومرض الثالث فتشاءموا من هذه الحوادث وامتنعوا عن العمل كلية .
     واتصل المقاول بصاحب العمارة فوافق على أن يبقى الضريح فى مكانه وأن نغير التصميم على هذا الأساس .
     وزاد ذلك من سخطى ، فاتصلت بصاحب العمارة لأجعله يعدل عن رأيه هذا .. وقلت له إن بقاء الضريح فى مكانه سيشوه واجهة العمارة ويجعله يخسر آلافا مؤلفة من الجنيهات .. ولكن نستطيع أن نفعل شيئا يرضى عقيدته ويمنع الخسارة .. ذلك أن نبنى ضريحا جديدا لهذا الشيخ فى مكان آخر .. ووافق على رأيى هذا .. ووضعت للضريح الجديد تصميما رائعا يكلفنا أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات .
     ولكن عندما نمت فى تلك الليلة جاءنى رجل فى لباس أبيض وقال :
     ـ سيب الضريح مكانه ..
     وقد فسرت هذا الحلم بأنى كنت مشغولا قبل أن أنام بالضريح .. وكان مسيطرا على عقلى .. فلما نمت حلمت به .. كما يحلم الطالب فى ليلة الامتحان بالأسئلة والممتحنين ..
                                 ***      
     وشرعنا فى إزالة الضريح ولكن واحدا من العمال لم يقدر على أن يضرب الفأس فى الأرض أو فى سقفه أو فى حوائطه .. فشعرت بالغيظ وأوقفت الماكينات التى تحفر الأساس فى الجهة الأخرى ..
      وجمعت العمال جميعا ورائى فى حلقة كبيرة .. وأمسكت بالفأس أمامهم لأريهم بأن الأمر أسهل مما يتصورون ويقدرون .. ولأزيل هذه الخرافات من عقولهم جميعا .
     أمسكت بالفأس وضربت ضربة قوية فى الجدار .. فانخلع قالب واحد من الطوب .. ولكن انخلع معه ذراعى وأحسست بمثل النار تسرى فى كتفى اليمنى .. وبسواد شديد يزحف أمامى حتى أظلم المكان ..
     ولم أقو على حمل الفأس فألقيتها وأنا أتصبب عرقا .. ونظر إلىّ العمال فى ذهول .. ثم صاح أحدهم :
     ـ شهدنا لك يا سيدنا الشيخ ..
     وصفقوا وهللوا .. وتركتهم مخذولا ..
     أخذت أفكر فى هذا العالم الآخر عالم الأسرار .. وتذكرت الحلم والشيخ الذى جاءنى فى المنام .. وكل ما دار فى رأس العمال من مخاوف بسبب الضريح .. وقلت .. إن هذا عالم آخر .. يعلو عن فهمنا وادراكنا .. وأسراره لاتحيط بها عقولنــا .. إنه عالم الأسرار لاندرك منه شيئا .. عالم الأسرار ..
     وأبقينا على الضريح كما ترى فى مكانه .. بل بنيناه بالحجر والجرانيت من جديد .. وزيناه ووضعنا فى سقفه القناديل .. وانه الآن مصباح العمارة ونورها ..
     وقد أخذ ذراعى فى التحسن فأنا الآن أستطيع تحريكه واعتقد أنه سيشفى تماما ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 12|1|1955 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962 لمحمود البدوى
================================= 


    
الساعة

     فى صيف هذا العام سافر السيد | أحمد عبد الغفار وهو موظف بوزارة الصحة مع بعثة الحج إلى مكة .. ورجع من الحجاز بعد أن أدى فريضة الحج وفى يده ساعة جميلة اشتراها من سوق المدينة بعشرة جنيهات .
     ولما شاهدها زملاؤه فى المكتب أعجبوا بها وأخذوا يتحدثون عنها فقد كانت الساعة ثمينة حقا وشكلها غريبا .
     وكان صاحبها يتيه بها ويعتز إذ مع ما فى شكلها من غرابة فإنها لاتخل ثانية واحدة وكان يزهو ويقول مبتسما لأصحابه أنه يحمل بج بن صغيرة فى يده .
     وكانت الساعة إذا قورنت بغيرها من الساعات تعتبر عديمة النظير .
     وبعد شهر واحد من عودة الحاج أحمد أصبحت الساعة حديث الجميع .. ومنهم من كان يضيف على محاسنها أشياء كثيرة من عنده حتى دون أن يراها .
     والذى كان غائبا عن الديوان من الموظفين فى عمل مصلحى أو فى أجازة ثم رجع ، كان زملاؤه يسألونه قبل أى شىء :
     ـ هل رأيت ساعة الحاج عبد الغفار ؟
     ـ ما لها ..؟
     ـ اذهب لترى أدق وأعجب ما صنعه الإنسان ..
     ـ صحيح ..؟
     ـ ميناء صغيرة ودقيقة فى حجم المليم .. ترى فى وجهها الثانية والدقيقة والساعة .. واليوم .. والشهر .. والسنة ..
     ـ ان هذا عجيب ..!!
     ـ مع هذا فإنها لاتملأ قط .. وانما الحركة وحدها تملأ الزمبلك ..
     ـ عجبا ..
     ـ وتتحمل كل ضغط .. وتسبح بها فى الماء .. وتدخل النار وتخرج منها سليمة ..
     ـ ياسلام ..
     ـ أضف إلى ذلك أنها ناطقة وتوقظ الحاج أحمد ليصلى الفجر حاضرا .. وتبرق فى الظلمة بريق الماس ..
     وكأنما أصاب صاحبها الحسد .. فقد تركها يوما فى درج مكتبه بالوزارة .. وذهب إلى دورة المياه .. ولما رجع لم يجدها ..
     وصعق الموظفون لما علموا بالخبر .. فقد كانت الساعة عزيزة عليهم جميعا ..
     وكان المكتب هادئا .. ولايدخله الغرباء قط .. ولم تحدث فيه سرقة أبدا ..
     الموظفون فى كل يوم يخلعون ستراتهم ويعلقونها على المشاجب .. ويتركون فى جيوبهم المحافظ والأقلام الذهبية وما ضاع شىء منها أبدا .. فكيف يحدث هذا .. وكيف تسرق الساعة وأخذ الموظفون ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض وقد وجموا وتصلبت ملامحهم .. وكانوا بعد الانتفاضة الأولى قد وجموا وجمدت وجوههم .. كأنما مر فى أجسامهم سيال كهربى واحد .. هزهم هزة عنيفة .. ثم تركهم إلى الموت .
     ولما استفاقوا من الغاشية التى نزلت عليهم .. أخذوا يسترجعون فى أذهانهم كل من دخل المكتب فى الفترة التى غاب فيها الحاج أحمد ..
     كان الفراش زهران قد دخل بالقهوة التى اعتاد أن يوزعها فى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر .
     ووضع أول فنجان على مكتب السيد همام الذى كان يتحدث فى التليفون فى تلك اللحظة مع بقال قريب من بيته .. ليسأل عن ابنه الوحيد وقد أصيب منذ اسبوع بشلل الإطفال .. وكان قد لوعه الأمر وطير لبه .. وكان فى كل يوم يأتى له بدواء جديد حتى أثقلته الديون .. وكان يدق للبقال فى كل ساعة ليأتى له بالخادم .. أو بزوجته على التليفون فيطمئن على صحة ابنه ..
     والموظفون الثلاثة الآخرون كانوا منكبين فى العمل مستغرقين فيه فلم يتحركوا من أماكنهم .. ولم يحسوا بالسرقة إلا بعد أن سمعوا بها .. من موظف الأرشيف .. وهو يضع على مكاتبهم الأوراق التى وردت فى فترة الضحى .. وكان هناك رجل واحد قد جاء من الخارج ودخل الغرفة فى فترة غياب الحاج أحمد .. ثم خرج .. رجل اعتاد أن يحمل لهم بعض الأشياء التى يتسوقها من سوق غزة .. كالأقلام والمناديل والجوارب " والكرافتات " ويمر عليهم فى الشهر مرة ..
     وكان الموظفون يشفقون على الرجل لأنه عجوز .. ولأنه كان من قبل موظفا مثلهم .. ولما أحيل إلى المعاش .. اشتغل بهذه التجارة الخفيفة .. وأصبح يدور على الدواوين ليحفظ مستوى المعيشة لبيته كما كان ..
     وكان الرجل أمينا وصادقا فى معاملاته معهم .. ويرضى بأن يبيع لهم بالأجل وبالتقسيط .
     ومع كل صفاته فإنهم شكوا فيه .. لأنه تاجر .. ومن السهل عليه أن يأخذ الساعة فى ساعة ضعف .. لحظة خاطفة يضعف فيها الإنسان أمام إغراء الشيطان .. واتهموه فعلا وبعثوا من جرى وراءه وسأله عن الساعة قبل أن يخرج من باب الديوان .. وهو يحس بالخنجر الذى صوب إليه فى شيخوخته .
     واتهموا بعد البائع الذى جاء من الخارج .. موظف الأرشيف الذى مر على المكاتب جميعا .. ثم الفراش .. الذى يرى ما فى داخل الأدراج .. وأخيرا حصروا التهمة فى الفراش لأنه أفقر الثلاثة .
     وركزوا عيونهم عليه وأشعروه بالاتهام .. فانكره بقوة .. فماذا يفعلون وليس فى يدهم دليل ..
     حاروا وأحسوا بالأسف لما حدث .. أحسوا .. أن لوح الزجاج الكبير الذى يمثل نصف الباب قد شرخ .. أصابه شرخ كبير منذ وقع الحادث ..
     وكانوا يحسون أن شيئا تمزق فى داخل نفوسهم .. شيئا مر فى أجسامهم بقسوة وأصابهم بمثل حد السكين .. وكأن غماما أسود زحف عليهم ولطخ وجوههم جميعا .. ووصمة عار لحقت بهم .. فهزت كراسيهم .. وأصابت جو الحجرة بمثل الوباء .. فسممته ..
     وبصرف النظر عن الفراش الفقير .. الذى تركزت عليه التهمة ولصقت به .. فإنهم كانوا يتصورون أن عينى الحاج أحمد تتهمانهم جميعا .. بالاهمال على الأقل .. لأنهم تركوا ساعة زميل لهم تضيع إلى الأبد .. وتسرق فى لحظة خاطفة .
     كان صاحب الساعة فى الواقع يبكى فى أعماقه صامتا .. ثم ترك عوضه على الله .. وحاول أن ينسى ما حدث ..
                                  ***     
     وشغل الفراش بالاتهام وحز فى نفسه أن يتهم بالسرقة بعد خدمة ثلاثين سنة كاملة لم ينحرف فيها قط ولم تضع فى خلالها من هذا المكتب ورقة واحدة .
     وظل عقله يتأمل .. وعيناه تبحثان .. فى كل مكان حتى وجد الساعة مصادفة عند تاجر يشترى مثل هذه الأشياء ففرح واستردها منه بثلاثة جنيهات .. وما زال وراء التاجر حتى علم منه أوصاف الرجل الذى باع له الساعة وانطبقت الأوصاف تماما على السيد|همام الموظف بالمكتب .. وتألم الفراش وكتم الخبر ..
     وأعاد الساعة إلى صاحبها .. وهو يحس بعمله هذا أنه ثبت التهمة على نفسه .. ولكنه أحس بالارتياح لأنه أزاح غمامة سوداء خيمت على المكتب ..
     ولما سألوه أين وجدها وكيف استردها صمت .. وهو يحس بأن الاتهام موجه إليه وحده ثم انتحل لهم قصة مكذوبة فزاد التهمة التصاقا به .. ولكنه لم يبتئس .. ما دامت الساعة قد عادت إلى يد صاحبها .
                                 ***   
     وفى صباح يوم من أيام السبت حضر السيد | همام إلى المكتب متأخرا بعد أن حضر جميع الموظفين وكان فى حالة تعيسة .. وجلس إلى المكتب وهو يبكى .. وقال هامسا فى صوت تخنقه العبرات ..
     ـ ولدى الوحيد مات .. ودفنته أمس .. مات بعد أن دخل جوفه الدواء الحرام .. سامحونى سامحنى ياحاج أحمد .. أنا مسكين ..
     وتلفت الموظفون إليه فى ذهول ولم يفهموا شيئا .. كانوا يتصورونه يهذى وقد أصيب بالخبل لموت الغلام ..
     وكان الفراش واقفا وسمع كلام الرجل وعرف معناه .. ولكنه ظل صامتا لم ينطق بحرف وظل السر مطويا بين جوانحه .. ولم يتحدث لإنسان عن سقطة السيد | همام .. وظل الموقف غامضا ..
     كان يعرف الحزن الذى يعانيه الرجل والمحنة التى مرت به ولم يشأ أن يكشف السر فيصوب خنجرا داميا إلى قلب الأب المسكين ..




====================================    
نشرت القصة فى مجموعة الجمال الحزين 1962
====================================   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق