الجمعة، 17 أبريل 2015





    
 
العين الخضراء
    
                                                                                    
       
        كنت سعيدا بالسفر إلى دمشق .. وكنت أحلم بأشياء كثيرة .. ولكن حرارة الجو .. والعزلة المرة .. أفقدتنى أعصابى .
     كانت الأيام الأولى ممتعة .. فقد انطلقت إلى بلودان .. وإلى الزبدانى .. وإلى الغوطة والربوة ..
     ولكن عندما رجعت إلى دمشق تبخرت هذه الأحلام .. كنت أعانى رهقا من وطأة الحر ..
     أوصتنى الزهراء الفتاة العاملة فى الفندق بأن أنتقل إلى رياض المدينة .. وأخرج إلى الغوطة ..
     وسرت فى ساعة الغروب فى شارع بغداد .. متجها إلى منـزل السيد محيى الدين اللاذقى حاملا له رسالة شخصية من صديق ..
     وكان السيد محيى الدين مولعا باقتناء المخطوطات النادرة .. ويحتفظ فى خزانته بمخطوط لا يقدر بثمن لرسالة الغفران .. وكنت أعد بحثا عن المعرى فى الموضوع .. فرأيت بمناسبة وجودى فى دمشق الاطلاع على هـذا المخطوط ..
     وكان السيد محيى الدين يسكن فى جادة حلب وكنت قد اتصلت تليفونيا ببيته فى الصباح واتفقنا على هذا اللقاء ..
     وقرعت بابه والشمس تتوارى وراء أشجار الحور والصفصاف المحيطة بالبناية ..
     ودخلت من باب صغير مزخرف .. إلى باب آخر .. ثم توسطت ساحة البيت الرحبة .. وكانت الأزهار والورود والنباتات العطرية تتسلق سياج البيت .. وأرج الياسمين والقرنفل يعبقان الجو كله ..
     وعندما جلست فى قاعة الضيوف بأثاثها ورياشها وزخارفهـا العربية الخالصة تصورت نفسى فى قصر " العظم " .
     وكان البيت من طابقين وله ساحة واسعة تتوسطها نافورة يسبح فى حوضها سمك الصيد من كل الألوان .. ويدور "" بالفسقية " ممشى طويل مرصوف بالأحجار الملونة .. وفى نهايته تعريشة من شجر الكروم ..
     وجلست فى القاعة الكبيرة المربعة أنظر من النافذة إلى الساحة .. وأتأمل ما حولى من طنافس فلم أكن أتصور قط أن الرجل فى مثل هذا الثراء .. كانت سجاجيد المخمل على الأرض.. وعلى المناضد صحاف صغيرة من الفضة ..وعلى الجدران صورة زيتية كبيرة للمسجد الأموى .. وقلعة حلب ..وتماثيل صغيرة من صنع الصين ولم أسمع حسا فى البيت كله .. ورحت أفكر .. ولكن الباب انفتح .. وظهر على عتبته رجل طويل حليق الذقن ذوشارب مفتول وعيناه سوداوان .. وكان متشحا بعباءة حريرية فضفاضة .. جعلت وجهه أكثر إشراقا .. لم يكن يقل عمره عن سبعين عاما يوما واحدا .
     وجلس فى إشراق قبالة الباب على كرسى قديم مطعم بالصدف .
     وكان فى مجلسه يبدو مهيبا .. ثم رحب .. وأخذ يتأمل الرسالة التى قدمتها له .. ويسأل عن صديقه فى القاهرة .. ويبدى استعداده عن طيب خاطر لتقديم كل معونة لى تساعدنى على هذا البحث .
     وجاءت القهوة العربية .. حملها خادم يرتدى بدلة كاملة .. وصب لى فى الفنجال أكثر من مرة ..
     وأخيرا نهضنا ثم اجتزنا رواقا وثلاث غرف تشبه غرف الضيوف أيضا .. وقاعة واسعة حيث يقوم مكتب كبير مطعم بالصدف .. وبجانبه كتب وضعت على الرفوف فى نظام بديع وكلها مجلدة بجلدات مذهبة أنيقة وبعضها من جلد السمك .
     ورفع إلىّ نظره وقال .. وهو يخرج حزمة مفاتيح من جيبه .. ويضع مفتاحا منها فى إحدى الخزائن ..
          ـ  لقد جبت الآفاق وراء هذه المخطوطات .. ورأيت الكثير من الناس .. ولكنى لم أر أنبل ولا أكرم من العرب .. وكلما كان العربى خالصا لم يلوثه الأجنبى كان أكثر صفاء .. وأكثر شهامة وبطولة .. ولقد عشت فى مدريد سنة كاملة لأعثر على بعض هذه المخطوطات التى تراها .. ولم أكن أحس بأنى أعيش فى بلد غريب .. لأن الدم الذكى ما زال فى عروقهـم .. اجلس .. لحظة ..
  وقدم لى المخطوط ..
  ووجدته قيما ونادرا حقا وفيه زيادات كثيرة عن النسخ التى تحت يدى .. فاستأذنت السيد محيى الدين لأنسخ هذه الفقرات الزائدة .. ولم أحرجه بطلب حمل المخطوط إلى الفندق لأنه يخشى عليه من الضياع .. ورضيت بما أشار علىّ به من أن أجىء إلى مكتبته كلما سمح الوقت ، وأبدى استعداده لأن يرسل لى سيارته الخاصة فى كل صباح لتحملنى إلى بيته .. ولكنى رفضت عرض السيارة بشدة . 
     وقد هيأ لى الرجل الكريم كل امكانيات النسخ من المنظار الكبير .. والورق والأقلام .. والواح البللور ..
     وعرفت أنه من كبار التجار فى دمشق وأنه أخذ يجمع هذه المخطوطات كهواية محببة إلى نفسه ويصرف عليها الكثير .. حتى أنه يسافر إلى جهات كثيرة ليعثر على مخطوط نادر ..
     وكانت مكتبته تحفة حقا من حيث التنسيق والفخامة .. وقد وضعها الرجل جميعا تحت متناول يده ..
     وقد اخترت فترة الصباح بعد الساعة العاشرة ولم أكن أمكث أكثر من ساعتين .. ثم انطلق بعد ذلك على هواى فى المدينة ..
     وكان الجو حارا فى فترتى الصباح والمساء على السواء .. ولكننى فى بيت الرجل كنت أحس بالطراوة والراحة أكثر ، كانت الأزهار عنده مفروشة على طول الجدران ، كانت مساحة البيت الواسعة تحمـل إلىّ من خلال الأشجار التى تطوق البناية والتى تخفف من شدة الحرارة هواء لطيفا .. وكان الجـــو الشاعرى المحيط بالقاعة لايجعلنى أحس بالتعب ..
     وكان الرجل يحيينى فى الفترة التى نشرب فيها القهوة .. ثم يستأذن ويمضى لشأنه .. وأحيانا يعتذر من على الباب ويتركنى لعملى .. وكان الخادم الذى يقدم لى القهوة .. هو نفسه الذى فتح لى الباب فى اليوم الأول ..ولم أر سواه فى البيت حتى تصورت أن السيد محيى الدين يعيش عزبا ..وهذا الخادم يرعى شئونه وحده .. وكنت أفكر فى أن أسأل الزهراء فتاة الفندق عنه .. ولكنى وجدتها مستغرقة فى عملها وتعنى بشئون غرفتى واعداد ملابسى وكيها أكثر من عنايتها بأى شىء يتعلق بأخبار الناس .. فلم أسألها .. ثم حدث فى الساعة الحادية عشرة من صباح يوم  – وكنت أنظر إلى الساعة وأحصى ما كتبته – أن لمحت وأنا أرفع رأسى عن الكتاب واتجه ببصرى إلى الخارج فتاتين مبرقعتين .. تدخلان من وراء الكنة بعد أن اجتازتا الساحة ..
     ورأيت احداهما .. قبل أن تتوارى عن بصرى .. تدير رأسها الى ناحيتى .. ورأيت بياض العاج فى المعصم العارى .. ولكننى لم أر الوجه قط .. وكانت أطول من رفيقتها وأكثر نحافة ..
     ورأيت هذه الفتاة نفسها تنظر إلىّ من وراءْ السجف .. وكان الوجه سافرا هذه المرة ولكن النافذة بدت " كبرقع " من " الدانتلا " وأن كنت قد رأيت العينين الساجيتين تبرقان من وراء الابعاد ..
     ولقد عجبت لرجل ثرى ظل يعيش كما عاش أبوه وكما عاش جده دون أن يغير من نهجه فى الحياة . ويفرض الخمار على فتاتين فى سن العشرين ..
     وعلى الرغم من هذا التحفظ فاننى شعرت بالبهجة .. كأن أنفاس الفتاة توشك أن تصل إلى خياشيمى .. وكنت أرى الفتاة المبرقعة فى سوق دمشق وفى شوارعها فلم يسترعنى الأمر كله كلية ..
     وفى خلال خمسة أيام استطعت أن أرى وجه الفتاة وأرى وجه رفيقتها .. وكانت تابعة لها تلازمها ملازمة الظل .. ولم تكن أختها كما حزرت أول الأمر ..
     ولمحت بسمة خفيفة على الثغر النضير .. وتحية عابرة من وراء الابعاد .. لإنسان من نفس الوطن ..
     وكنت أراها عبر النافذة ومن وراء السجف .. ولعلها كانت تتأملنى فى صمت المعجب .. وأنا أشغل نفسى ببحث يقوم به العجائز ..
     وكنت أقضى ساعتين كل يوم مع الورق والحبر .. ولكن أنفاس الفتاة من الناحية الأخرى من البناية كانت تعبق المكان .. وكان كل ما فى الغرفة التى أشتغل فيها يرتبط معى بعلاقات ود .. القلم والمحبرة وفنجال القهوة واللوحة المعلقة على الجدار .. والمخمل على الأرض ..
     وكنت أعيش فى جو حالم .. ونسيت أننى فى بيت رجل غريب .. وكان الرجل مهذبا طيب القلب مطلعا على الأدب وعلوم الدين .. ولكن فيما عدا ذلك لم يكن أى شىء على الطلاق .. كان محدود الفـكر ..
     وعندما كنا نتحدث عن الأقمار الصناعية والصواريخ .. كان يضحكنى بضحالة تفكيره ..
     وفى سوق الحميدية رأيتها .. ووجدت معها رفيقتها فى دكان صغير يبيع العطور وزينة النساء .. جمعنا القدر .. دون أن نعد العدة .. وكنت أساوم الرجل صاحب الدكان فكففت عن المساومة لما دخلت خفيفة رشيقة ..
     وسألتها عن عطر .. أهديه لقريبة لى .. فاختارت لى صنفا ممتازا دون أن تنطق بحرف .. وكذلك اختارت كل صنف ذكرته لها .. وهى متوردة الخدين وعلى شفتيها بسمة خفيفة ولكنها متألقة . وكانت تابعتها تقف فى ناحية كالصنم تماما .
     ثم خرجت من المحل مبرقعة .. فسرت وراءها فى السوق .. وكانت بيضاء .. ناصعة البياض وترتدى رداءها السابق الذى عرفتها به ..
     كانت رفيعة القوام جدا .. ممشوقة وتسير خفرة فى السوق حتى تصل إلى سيارتها الواقفة هناك .. فى الساحة الخارجية .. ياله من مشهد فاتن .. إن كل النظرات تلاحقها وتتحول اليها .. كانت فتنة النساء .. وكان البرقع لا يخفى جمال عينيها .. وجمال وجهها .. كأنه الغمام الخفيف عندما يخفى القمر .. ولكن النور .. يظل مطلا على الكون .. وكذلك كان وجهها فى الشارع ..
     ثم لاحظت عليها الاضطراب .. لما أحست بأنى اتبعها .. فتركتها .. ممزق القلب .. ومضيت وحدى فى السوق ..
     وكانت البهجة لما فيه من نساء جميلات .. اكثر من بهجة المحال التجارية ولكن كانت أمامى لحظـات لا أفكر فى أنثى سـواها أبد الآبدين ..
     كان وجودها كافيا ليشغل تفكيرى .. إن حياتى تتحول الآن .. كنت أشعر بها فوقى وأنا جالس إلى المخطوط .. بجسمها وروحها .. وكنت مرتبطا بها برباط لا أستطيع فهمه .. وأقدر أن شيئا أزليـا سيجمعنا ..
     وفكرت فى أن أفاتح والدها فى الأمر .. أعرض عليه زواجنا قبـل أن تتطور المسألة إلى حماقة ..
 ***   
     وكنا نتلاقى فى الممشى الخارجى من البيت دون أن نتبادل كلمة .. وكلما مرت من الرواق شممت رائحة الياسمين ..
     وكنت أشاهد ها تودع والدها وهو خارج إلى نزهتـة اليومية بالسيارة ..
     التقيت بها ذات يوم وجها لوجه فى الدهليز .. ولم يكن يفصل بيننا شبر واحد .. وحين نظرت إلىّ جمدت فى مكانها لحظة وعجبت لخجلها الشديد ..
 ***     
     وفى هذا اليوم جمعت أوراق البحث وسهرت فى الفندق لأفرغ منه .. وأهىء تفكيرى للحديث مع الرجل فى أمر زواجى من فتاته .. ولم أكن أفكر فى ثرائه وفقرى أبدا ..
     وكان الحر شديدا فى داخـل الغرفة فجلست قرب النافذة .. وكانت النجوم تغطى السماء فأخذت أنظر اليها وإلى نهر بردى وكان ساكنا هادئا .. ولكنه يجرى كما تجرى الحياة وكانت أنوار النيون تلتمع على واجهات العمارات .. والمصابيح تتألق فى الشارع ، ومع هذه البهجة فى الطرق كانت حركة المرور قليلة .. وكان الحى ساكنا ..
     وكنت مسترخيا بقميص قصير الأكمام .. وخف مفتوح .. وضغطت على الجرس .. فدخلت علىّ الزهراء .. فتاة الفندق .. وطلبت فنجالا من القهوة لأنشط للعمل .. فجاءت به سريعا ووقفت تلاحظنى وأنا أكتب .. وكنت قد حدثتها عن بحثى ..
     فسألتنى :
 ـ ولماذا اخترت المعرى ؟
       ـ لأنه كان يشفق على الحيـوان .. وعـاش ليحفظ كرامة الإنسان ..
     ـ أن هذا اختيار موفق .. ولكنك ترهق نفسك فى العمل .. وتحبس نفسك فى الغرفة .. بدلا من أن تنطلق إلى المدينة ..
ـ هل يمكن أن تساعدينى وتملى علىّ ساعة ..؟
    ـ بكل سرور .. وأنا كلمـا رتبت لك الغرفة فكرت فى مساعدتك وخطى جميل .. على الأقل أحسن من خطك ..
ـ بالطبع لابد أن يكون جميلا مثلك ..؟

     واحمر وجهها .. وضحكنا .. وحدثتها عن المخطوط .. الذى عنــد السيد محيى الدين .. وما فى بيته من رياش وتحف ..

     فقالت:

     ـ أنه إذا لم يفكر فى اقتناء الكتب كان سيقتنى السجاد .. أو التحف أو اللوحات .. او السيوف النادرة .. أو التماثيل ..

ـ لماذا ..؟
ـ الفراغ .. والثراء العريض ..
     واستدارت فى خفة .. وحمـلت الصينية ثم .. وضعت سيجارة فى فمها ..
ـ هذه أول سيجارة أراها فى فم فتاة .. هنا ..
ـ أو لم ترها قط ..؟
     ـ أبدا إنى أرى البرقع .. فى الشارع وفى سوق الحميدية .. فكيف أرى معه السيجارة ..
ـ أو يعجبك البرقع ..؟
     ـ ليست المسألة مسألة اعجاب وإنما أنا لا أحب أن أرى سيجارة فى فم فتاة عربية أبدا ..
ـ إذا كان هذا يغضبك .. فلن أدخن بعد اليوم ..
   والقت السيجارة وهى تبتسم فى دلال ..
وسألتها :
ـ هل تشتغلين فى هذا الفندق من مدة ..؟
ـ منذ سنة .. بعد وفاة والدى .. اضطررت لأن أعمل ..
ـ ولا يوجد أخ ..؟
     ـ هناك أخ صغير .. وأم .. وأنا أعول الإثنين معا .. وأشعر بسعادة .. عندما أجد أخى الصغير يرتدى قميصا نظيفا وحلة جديدة .. وعندما أجد الليرة فى يدى لأشترى الدواء لأمى إذا مرضت ..
ـ هذا جميل يا زهراء .. هذا أجمل شىء فيك ..
ـ هل أنت مسرور حقا ..؟
ـ وكيف لا أسر من فتاة تكافح فى بسالة ليظل سقف البيت قائما .. بعد أن مات أبوها .. انك فتاة العصر .. الفتاة التى نريدها لحياتنا ..
وقالت باسمة :
      ـ هل تضحك .. إذا قلت لك أنك وضعت خطأ فى جناح العائلات وأن السيد حموى كان يتصورك متـزوجا ..ولما عرف أنك أعزب لم يحاول أن يجرح شعورك ويغير لك الغرفة ..
ـ هذا من حظى لأراك ..
وظلت معى تساعدنى فى عملى حتى انقضت ساعات .. وكانت قد انتهت نوبتها فبقيت حتى فرغنا من عمل كبير ..
وشكرتها وأنا أفكر فى هدية لها قبل أن أبرح الفندق ..
 ***   
ودعانى السيد محيى الدين إلى تناول العشاء فى بيته فى مساء الخميس وكنت قد فرغت من المخطوط ..فلبيت الدعوة .. لأشكره على معروفه .. ولأفاتحه فى موضوع الزواج من فتاته .. أو على الأقل أمهد الطريق لذلك .. والح علىّ فى أن يرسل السيارة إلى الفندق فى السـاعة السابعة مساء .. فقبلت ..
وجاءت السيارة .. وكان السائق مهذبا وقد طاف بكثير من البلدان فأخذ يحدثنى ـ وهو معجب ـ عن القاهرة وما فيها من جمال .. فانتهزت الفرصة .. وأخذت أسأله ـ وإن كان سؤالى لايليق ـ عن أسرة السيد محيى الدين وما عنده من بنين وبنات ..
ـ ليس عنده بنون ولابنات ..
     ـ لم ينجب ..؟
     ـ قط ..
وشعرت بدوار ..
     ـ ومن هى السيدة الشابة .. التى أراهـا فى بيتـه لابسة البرقع دائما ..؟
      ـ إنها زوجته ..
وشعرت بأن السيارة تدور بى فى مكان واحد .. وتصبب وجهى عرقا .. وأخفيت اضطرابى فصمت ومسحت عرقى وأنا أحس بقلبى يتمزق ..
وكانت يداى ترتجفان .. فغصت أكثر وأكثر فى المقعد وأنا أحس بالظلام يتسلل إلى المدينة قبل الأوان ..
وتعشيت مع الرجل وأنا أحس بغصة فى حلقى ..
 ***
وعادت بى سيارتة إلى الفندق ..
فصعدت إلى غرفتى على التو .. وجلست بكامل ملابسى معتمدا على راحتى وتركت باب الغرفة مفتوحا .. ونمت وأنا جالس على الكرسى ..
واستغرقت فى النعاس واستيقظت على صوت أقدام فى داخل الغرفة .. فلما فتحت عينى .. وجدت رجلا ضخما .. يقف على قيد ذراع واحـدة منى وينظر إلىّ وعيناه مفتوحتان  ويتفوه بألفاظ لم أفهم معناها ..وبدا من حركته وكلامه أنه فى أشد حالات السكر ..
          ولما أدركت حالته أخذت ألاطفه فقد خشيت أن يطبق على عنقى وهو فى حالة تشبه الجنون .. أو أن يقذفنى بالكرسى أو بالمنضدة .. أو أن يلقينى من الشرفة .. وكان يحدق فى وجهى ثم يحول بصره إلى الشرفة كأنه يقيس المسافة بينى وبينها ..
         وكنت كلما حاولت التحرك من مكانى لأقترب من الباب ينظر إلىّ نظرة من نار .. فيشل يدى ويسمرنى فى مكانى ..
     وظللت ساعة كاملة وأنا أحاوره لا أستطيع التحرك من مجلسى .. ظللت قابعا فى مكانى وكلما تحركت .. انقض علىّ فأعادنى إلى الكرسى بحركة من يده ..
     وهو يقول :
ـ اجلس سأروى لك قصة ..
       وأخذ يتحدث بانجليزية فيها لكنة لم أفهم منها سوى أن زوجته تخونه وقد غادرت الفندق منذ الصباح فى صحبة شاب ولم تعد حتى هذه الساعة ..
     وكنت قد رأيت هذا الرجل فى جناح الفندق من قبل وبصحبته الزوجة التى يتحدث عنها ولم أعرهما التفاتة ولم أحاول معرفة جنسيته .. وكنت أراه دائما مخمورا وهناك أمكنة كثيرة يمكن أن يبتهج فيها السكير فلماذا بقى فى الفندق ..
     وظللت أتحمل جنونه وألاطفه ..
     ثم كان لابد من حدوث شىء فقد ضربنى أخيرا ضربة قوية .. ولعله تصور أننى أدافع عن زوجته .. أو أنه كان لابد أن يضرب شخصا ما ليستريح من عذابه ..
     وارتميت على السرير .. دون وعى .. وعندما فتحت عينى وجدت الزهراء فتاة الفندق بجوارى ..
     فنظرت اليها متعجبا .. وسألتها :
ـ هل أنت نائمة الليلة هنا ..؟
ـ أجل ..
ـ لماذا وأنت تروحين من الغروب ..؟
ـ لقد حدث ما جعلنى أظل فى الفندق .. مرضت سيدة فى الغـــرفة 52 .. فبقيـت بجوارها .. لأراك وأنت فى هذه الحالة ..
ـ كان يود قتلى ..
ـ ونجوت ..
ـ لأفتح عينى وأراك .. جميلة ومشرقة .. يا زهراء .. من غير سيجارة فى الفم الوردى ..
ـ ألا زلت تفكر فى هذا ..؟
ـ لقد نسيتها .. ونسيت أشياء أخرى كثيرة ..
واستدارت بخفة وسألتنى :
ـ هل رأيت العين الخضراء ..؟
ـ أبدا .. سمعت عنها ولكنى لم أرها بعد ..
     ـ اذهب اليها غدا .. فى الأصائل .. لتريح أعصـابك .. وتنسى ما حدث ..
 ***   
     وفى الغد .. ركبت السيارة إلى العين الخضراء ..
     وجلست هناك قرب العين .. على مقهى صغير على سيف جدول يتدفق بالمـاء العذب .. وكان الهواء رخيا منعشا .. والمروج تغطى التلال ..
     وبعد الغروب أضيئت الأنوار .. وبدت القرية الصغيرة نائمة فى بطن الوادى .. وشعاع مصابيحها يبدو من بعيد كأنه مغشى بألوان من الزمرد المذاب ..
     وشعرت بالسأم والوحدة رغم الجمال المحيط بى .. وكان كل من حــولى من الرواد يتعشى ويشـــــرب " البطحة " .
     فطلبت زجاجة صغيرة وحملها الساقى على الفور مع ثلاثين طبقا صغيرا من المزة ..
     وصببت الزجاجة فى الكأس وقبل أن أرفعها إلى شفتى .. لمحت سيارة تدور هناك .. وتنـزل منها سيدة مع ثلاث من صاحباتها .. وتقدمتهن وعبرت الجسر فى رشاقة .. إلى " الكازينو " .. واختارت لهن المكان وجلسن قرب الجدول .. ينصتن إلى خرير الماء ..
     كانت جالسة على بعد خمسة أمتار منى .. وقد رفعت البرقع .. سفرت بكل جمالها وفتنتها ولكننى لم أكن أفكر فيها قط فى هذه الساعة لأننى عرفت أنها ملك لرجل آخر .. قد تكون فى نظره تحفة نادرة أو مخطوطا نادرا لايقدر بمال .. ولكنــه على أية حال استحوذ عليها وأصبحت تخصه وحده ..
     وفى نظرة عابرة لمحتنى وأنا جالس وحدى وأمامى الكأس .. فاحمر وجهها قليلا وصمتت ثم عادت إلى الحديث مع صواحبها .. وفى هذه اللحظة حركت يدى سريعا وأفرغت الكأس فى الماء الجارى تحتى ..
 ***
     وكنت وأنا أغادر المكان بعد ساعة أفكر فى الزهراء .. الفتاة الفقيرة .. الجالسة هناك فى انتظارى فى الفندق .. والتى لم تحدثنى قط عن عواطف قلبها .. ولكنها مكافحة تتدفق حيوية .. انها عين خضراء أخرى بالنسبة لى ستحول حياتى إلى مروج .. ومع مثلها أعيش وأكافح فى الحياة ..



================================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة 23|8|1961وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962











رزق من السماء

  
     خرج أحمد من البيت ومعه زوجته أمينة فى مساء يوم الجمعة الماضى لمشاهدة فيلم " الكونتيسة الحافية "..
     وكان أحمد يحب أمينة زوجته ويصحبها معه إلى السينما وإلى الأوبرا وإلى حفلات الموسيقى الكلاسيكية وإلى معارض الفن .. وإلى كل ما يتصل بالثقافة العامة .. ليرفه عنها ويوسع مداركها ويجعلها أكثر ادراكا وفهما للحياة .
     وكانا سعيدين كزوجين وقد رزقهما الله بغلام واحد جاء بعد يأس .. وكان فى سنته الأولى ذابلا وعليلا أبدا وميؤسا من حياته . فكانت الأم ترفع وجهها إلى السماء وتدعو له .
     واقترب مولد النبى .. فنذرت له خروفا توزعه على الفقــراء فى كل مولد وشفى الغلام وعاش حتى دخل الروضة .
     وكان والداه يحبانه حبا جما ويحبسان نفسيهما فى البيت لملاعبته ولايخرجان إلا بعد أن ينام .
     كان لهما كل شىء فى الحياة ..
     ومن سن الرابعة عرف الغلام أن الخروف الذى يذبح فى المولد هو خروفه ، فكان يذهب مع الخادمة ليوزع " اللحم " على الفقراء فى الحى بيتا .. بيتا .. ويشعر بسعادة تامة وبلذة إذا ركب حصانا حقيقيا إو صعد على بساط الريح ..
     وأصبح الغلام يترقب المولد النبوى لأنه عيده .. فيذهب مع والده إلى سوق المطرية ويشترى الخروف .. ويربطه فى غرفة البواب ويقدم له الماء والعلف . ويجلس بجواره ينظر إليه بحنان ويمنع أطفال العمارة من ركوبه .. حتى تجىء ليلة المولد فينام فرحا يحلم بأمتع الأحلام ويستيقظ مع الفجر فيجد والده جالسا بجانب الراديو يستمع إلى ترتيل القرآن فى مسجد السيدة .. من الشيخ شعيشع .. والشيخ عبد الصمد ..
     وفى الشروق يذبح الخروف وينقلب البيت إلى حركة مستمرة وفرح .
     ولكن فى هذه السنة لم يذبح الخروف فى المولد كالعادة .. لأن الأسرة كانت فى أيام المولد فى الإسكندرية ..
     وكان أحمد يود أن يشتريه ويوزعه على الفقراء بمجرد عودته .. ولكن مشاغل الحياة صرفته عن تنفيذ ما اعتزم عليه فنسى أو تعمد النسيان .
     وخرج الزوجان من السينما .. وكانت الأتوبيسات مزدحمة فركبا " تكسى " إلى البيت .
     وكانت الخادمة نائمة فى غرفة ابنهما لتؤنسه .. فلم تر أمينة ايقاظها وأخذت تعد العشاء .
     وكان أحمد يلاحظ أن زوجته تصفو نفسها بعد هذه النزهة وتصبح مرحا طروبا .. وتنسى التوافه التى تشغل بال النساء .
     وسألها وهى تخلع ملابس الخروج ..
     ـ عجبك الفيلم ؟
     ـ بديع .. بس كنا عاوزين نشوف الراجل ده شكله إيه .. اللى بيجر الكونتيسه إلى الوحل ..
     وضحكت لتوهمه بأنها هازلة ولكنه كان يعرف أنها جادة وأنها تتكلم بلسان المرأة وشعورها الطبيعى .
     ـ والحوار .. ما كنش فوق مستوى الجمهور ..؟
     ـ أنت فاكر الجمهور رايح علشان يفهم الحوار ..؟
     ـ أمال علشان آفا جاردنر ؟
     ـ طبعا .. وكفاية يشوفها لابسه المايوه .. وطالعة من البحر .. الله .. الخاتم يا أحمد .. الخاتم ! .
     ـ إيه .. مالك زعجتينى ..؟
     ـ الخاتم .. مش فى صباعى .. سقط .. أنا عارفه النهارده الجمعة ولازم .. يحصل حاجة ..
     ـ احنا مش فى الجمعة دلوقت .. دورى كويس وبلاش عصبية .. وان راح فداك ..
     ـ كان فى صبـاعى وحاسه بيه لغاية ما نزلت من التاكسى ..
     وأخذا يبحثان فى كل مكان فى البيت .. ونزل الزوج إلى السلم وبحث فى مدخل العمارة وعلى الرصيف فلم يعثر على شىء ..
     واغرورقت عينا الزوجة بالدمع وأخذت تصيح :
     ـ دا بدل الخروف .. اللى بخلت توزعه على الفقرا السنة دى .. أهو ضاع ثمنه مضروب فى ثلاثة علشان يعجبك ..
     وأخذ أحمد يهدىء من روعها ولكنها نامت باكية .
                                      ***
     وفى الصباح بحثت فى كل مكان عن الخاتم ولكن دون نتيجة .
     وجلس الزوج فى الضحى يلاعب ابنه فى الشرفة ويستدفىء بشمس الشتاء ولمح وهو جالس رجلا عجوزا يزحف على الرصيف الآخر .. ثم رآه يعبر الطريق ويقترب من بيته .. وعندما اقترب لاحظ أنه يلبس ملابس بالية وفى حالة لاتوصف من التعاسة والفقر والجوع وكان يزحف زحفا وينظر إلى الأرض ليجد كسرة خبز .. ورآه أحمد ينحنى ويلتقط شيئا من الأرض ويرفع وجهه إلى السماء وينظر وقد غمره الفرح وهزه ..
     كان هذا الشىء هو خاتم زوجته الضائع .
     وهتف أحمد بالخادمة ليقول لها بأن تنزل وتأتى بالخاتم من الرجل قبل أن يبعد .
     ولكن الخادمة كانت بعيدة مع سيدتها فى المطبخ فلم تسمع .. فكرر النداء .. وكان فى خلال ذلك ينظر إلى الرجل العجوز ويفكر فى مقدار ما يصيبه من خيبة الأمل والتعاسة .. عندما يأخذ منه هذا الخاتم .. رزقه الذى هبط عليه من السماء .. فكر فى السعادة التى يعيش فيها العجوز فى هذه اللحظة .. وقرر ألايسلبها منه .. وقال لنفسه إن الإنسان يعيش ليعطى السعادة للآخرين لاليأخذها منهم ..
     وعندما جاءت الخادمة .. وسألته عما يطلب ..
     قال لها فى هدوء :
     ـ روحى هاتى البدلة من المكوجى ..
     ولم يشعر بمثل هذه السعادة فى حياته ..






=================================
نشرت القصة فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962















الإشــارة

     حدث فى ليلة من ليالى الخريف ـ وكنت فى طريقى إلى بيتى بضاحية مصر الجديدة ـ أن رأيت سيدة تقف حائرة على رأس الطريق وتسأل عن شارع دكرنس ، ولما كنت أعرف موقع الشارع ، وكانت السيدة أجنبية ولاتستطيع التفاهم مع من تصادفه إلا بمشقة ، لأنها تجهل اللغة الدارجة ، فقد أشفقت عليها ومشيت بجانبها أدلها على الطريق .
     ولما بلغنا المنزل الذى تقصده وقفت أترجم كلامها للبواب .
     ولم تجد الرجل الذى تسأل عنه وتحمل عنوانه ، وعلمنا من البواب أنه ترك الشقة منذ أكثر من سبعة أشهر .. إلى حيث لايعلم .
     ورأيت وجه السيدة يصفر وارتعش فمها وهى تسمع هذا الخبر ، كأنها كانت تعلق كل آمالها على لقاء الرجل الذى ذهب ، وعدنا مرة أخرى إلى الطريق .. وكانت صامتة تجتر أحزانها ثم سألتنى عن فندق أو بنسيون يمكن أن تقضى فيه الليل ، وعرفتها أنه لاتوجد بنسيونات فى هذه المنطقة .. ولايوجد إلا فندق واحد فى الضاحية وأجره مرتفع والأحسن أن تذهب إلى المدينة .. وتلقت كلامى دون تعليق ..
     ومشيت بجوارى مستسلمة إلى محطة المترو ..وهناك تحت الضوء استطعت أن أميز قسمات وجهها ..
     وكانت رشيقة حلوة ترتدى رداء سنجابيا من قطعة واحدة .. ظاهر فيه البساطة والرخص ولكنها بدت فيه أكثر فتنة .. وكانت فى الرابعة والعشرين من عمرها .. ويبدو عليها أنها تشكو من حالة نفسية أو قلق متمكن ، ووضعت الحقيبة الصغيرة التى كانت تمسك بها على الرصيف واستدارت إلىّ بوجهها .. ورأيت ابتسامة خفيفة لاحت على شفتيها ..
     وقالت برقة :
     ـ الظاهر أننا سننتظر طويلا .. تفضل أنت ..
     ـ سأبقى حتى تركبى ..
     وبدت منها حركة بسيطة .. فاقتربت منى ولاحظت أنها ليست طويلة القامة بل أقرب إلى القصر وعودها أكثر لينا ورشاقة مما قدرت أولا .
     وكنت أفكر وأنا واقف معها فى السبب الذى جعلنى أخصها بكل هذه العناية ، الأنها جميلة أم لأنها وحيدة وغريبة فى مكان يبعد عن بيتها ، أم لأنى كنت أود أن أمرن لسانى على لغة تصورت أنى قد نسيتها تماما .. الواقع أنه مع هذه الأشياء مجتمعة فانى كنت أشتاق إلى مرافقة أنثى ولو لجولة قصيرة .
     ولما طال انتظارنا فى المحطة .. وكانت تنظر إلىّ من وقت لآخر .. كأنها تبحث عن حل لورطتها ..
     عرضت عليها فى بساطة أن تقضى الليل فى بيتى وقبلت مسرورة .. كأنها كانت تنتظر هذا العرض منذ التقينا ولم تجد الرجل الذى كانت تقصده ، ومشينا فى خطى رتيبة إلى البيت .
     وكنت أسكن فى الطابق السادس من عمارة حديثة البناء .. فى شقة صغيرة من ثلاث غرف مجاورة للصحراء مباشرة .. وقريبة من المطار .. وسرت السيدة منها ومن جمال الحى وهدوء الصحراء .. وسرت أكثر لما وجدتنى وحدى دون خادم أو أى انسان يشاركنى فى المعيشة .
     واشتركنا معا فى اعداد العشاء وكان كل شىء فى الثلاجة .
     وجلسنا نأكل .. وشعرت حقا بمتعة المؤانسة .. فقد كانت هيلين مع جمالها رقيقة الأنوثة ناعمة الصوت .. دافقة العواطف ..
     وعادت إلى روحها المكتئبة بعض البهجة فتفتحت نفسها ، وأخذت تتحدث بطلاقة حتى أخذت بحلاوة حديثها .. وحتى قضينا وقتا طويلا على المائدة .. وبعد العشاء .. تركت لها غرفتى لتخلع بها ملابسها وتستريح من تعب السفر ..
     وكنت أتوقع أنها تنام على التو ولكنها خرجت بعد دقائق وظلت تبحث عنى حتى وجدتنى فى الشرفة ..
     فقلت لها :
     ـ أتأخذين سيجارة ..؟
     ـ لامانع .. وان كنت لاأدخن كمدمنة ..
     ـ ردىء كالمعتاد ..
     ـ أحس بحلقى كله يلتهب ..
     ـ هذا أحسن .. لكى لاتضعى سيجارة فى فمك الجميل مرة أخرى ..
        وابتسمت ..
     وسألت بصوت أكثر نعومة :
     ـ أتعيش هنا وحدك ..؟
     ـ نعم ..
     ـ ولا أحد معك ..؟
     ـ لا أحد على الاطلاق ..
     ـ ولكن الشقة كاملة .. لاينقصها شىء وغرفة النوم غرفة عروس ..؟
     ـ لقد ورثتها عن زوجتى .. ماتت فى العام الماضى ..
     ولاحظت الأسى على وجهى ..
     ـ آسفة لأنى أثرت أشجانك ..
     ـ أبدا .. لقد استراحت من عذاب طويل .. كانت مريضة بالسرطان ..
     ـ لماذا لم تتزوج بعدها .. انك شـاب .. وأمامك الحياة كلها ..
     ـ لقد مررت بتجربة قاسية .. ولا أحب أن تتكرر ..
     ـ لقد فقدت زوجى .. كما فقدت زوجتك .. كان لى زوج ولم يكن شيئا فى عداد الرجال .. ولكن بعد أن مات أحسست بفجوة .. وبفراغ رهيب ..
     وكنت أعرف شعور الأرملة الوحيدة .. عندما تجد نفسها مرة واحدة فى وجه العاصفة فقلت لها برقة :
     ـ أعرف شعورك ..
     ـ لم يكن أكثر من خيط .. رفيع .. واه .. ولكنه يربطنى بالحياة ويجعلنى أحس بجريانها حولى .. أما الآن فأنا أحس بالموات ..
     وكنت أعرف معنى كلامها وأطرقت ..
     وكانت تبدو كمن عانى كثيرا ومر بمرحلة قاسية ..
     وسألتها ..
     ـ وأنت الآن مثلى لاتفكرين فى الزواج مرة أخرى ..؟
     فزمت شفتيها مع حركة من رأسها وقالت ..
     ـ اننى الآن .. أبحث عن عمل وسأجده ..
     واستأذنت لتذهب إلى الفراش وكنت أستطيع أن أذهب وراءها .. وأقضى الليل معها ولكنى ترفعت عن هذا العمل .. بسبب لا أعرفه بالضبط .. والإنسان لايستطيع فى كل وقت أن يوضح مشاعره وقد يكون لأننى شئت ألا أجعلها تشعر بأننى أتقاضى أجر راحتها فى بيتى .. أو أجعلها تحس بأنها سهلة المنال من أول لقاء ..
     وفى الصباح استيقظت مبكرة .. وأعدت لنا الشاى .. وعندما ارتدت ملابسها وتزينت .. وتناولت حقيبتها .. واستعدت للخروج .. تفجرت عواطفها على الباب .. وأنا أمد اليها يدى مودعا ..
***
     ومر عام كامل .. وفى ليلة من ليالى أكتوبر .. وكنا فى اليوم الثانى من المعركة بيننا وبين الإنجليز والفرنسيين فى القنال وكنت أتناول معطفى .. وبندقيتى .. وأتهيأ للخروج .. سمعت جرس الباب الخارجى يدق .. ولما فتحت الباب وجدت هيلين على العتبة .. وكانت تحمل حقيبة صغيرة ..
     ودخلت مشرقة .. وبادرتها بقولى ..
     ـ كيف اهتديت إلى البيت فى هذا الظلام ..؟
     ـ انه منقوش فى ذاكرتى .. يا اسماعيل ولا يمكن أن أنسـاه .. وأنسى الليــلة التى قضيتها معك .. كان لابد أن أراك ..
     وعجبت لأن اسمى ظل فى ذاكرتها بعد عام كامل .. وسألتها ..
     ـ أرجو أن تطول اقامتك فى هذه المرة ..
     ـ جئت لأقضى معك اسبوعا كاملا .. اننى فى أجازة .. ورأيت أن أقضيها معك لأنى أشعر بالسعادة والأمان ..
     ـ من حسن حظى أن تفكرى فى المجىء إلىّ فى هذا الوقت .. لتؤنسينى ..
     ـ رأيت الناس ينظرون إلىّ فى الشارع بقوة .. فقلت لنفسى لعلهم تصوروا أننى يهودية .. لأننى لا أضع الصليب على صدرى .. وخفت .. وجريت اليك ..
     ـ حسنا ما فعلت .. ولكن الناس هنا .. لايؤذون أحدا .. فكونى آمنة ولا تتصورى هذه التصورات ..
     ـ ولماذا هذه البندقية .. هل أنت ضابط ..؟
     ـ اننى متطوع فى الحرس الوطنى .. وسأضطر لتركك الآن .. وسأجىء فى الفجر .
     ـ وتتركنى وحدى فى هذا الظلام ..؟
     ـ لاتخافى .. اننى فى الشارع لأحميك .. وإذا حدثت غارة فانزلى إلى الدور الأرضى .
     ـ لن أبرح مكانى ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ ان الناس إذا اجتمعوا فى مكان واحد يتسلط عليهم خوف واحد من عدو مشترك .. الموت .. ويصبح حديثهم كله عن حوادث الغارات .. وليس عندى أعصاب لهذا ..
     ـ كما تشائين ..
     وتركتها .. وفى الفجر .. لما عدت كانت نائمة .. وأشفقت عليها من الليلة العنيفة التى انقضت فقد استمرت الغارات طول الليل ..
     وفى الصباح لما نهضت من الفراش .. فكرت فى أن أجىء لها بسيدة أعرفها لتؤنسها فى وحدتها ما دامت لاتحب النزول إلى الدور الأرضى فى وقت الغارات .. ولكنها رفضت .. وقالت لى أنها مستريحة .. وأنها تنام نوما عميقا ولا تحس بالغارات اطلاقا .. ولا داعى لأن أغير أى شىء من نظام حياتى من أجلها ، وذهبت لبعض شئونى ولما عدت إلى البيت فى العصر .. استأذنت لتتريض ساعة .. وكنت فى حاجة إلى النوم لأنى قضيت الليل ساهرا فتركتها تذهب وحدها وعادت قبل الظلام .. وأنا أستعد للخروج .. فقالت وهى داخلة ..
     ـ الأحسن أن أسافر ..
     ـ لماذا ..
     ـ لأنك لاتمكث معى أكثر من دقيقة .. هل أنت نازل .. و ..
     ولم أرد عليها .. والواقع أن كلمة السفر أزعجتنى فقد عادت إلىّ هيلين فى ظروف سيئة .. ولا مجال فيها للعواطف .. ولم أكن أمكث معها فى الليل الطويل .. أكثر من دقائق خاطفة ..
      وأحسست فى أعماقى بأنى أحبها .. كما يحب الرجل المرأة بكل حواسه .. وكل قلبه .. ولكننى برغم قربها منى ووجودها فى بيتى كنت بعيدا عنها ..
     لأنى كنت مشغولا بما هو أهم .. كنت مشغولا بوطنى .. الذى تحوم فوقه طائرات الأعداء .. وبالناس الذين أحبهم والذين فوجئوا بالعدوان الوحشى فهبوا جميعا لملاقاته ..
     وكان الضرب شديدا على منطقة مصر الجديدة فى الليلة الفائتة .. فترك كثيرون من السكان مساكنهم وذهبوا إلى الريف .. أو إلى أقربائهم فى القاهرة .. وبقى فى العمارة التى أسكنها البواب .. وساكن واحد ..
     وعرضت على هيلين أن تمضى يومين عند قريبة لى فى القاهرة حتى ينجلى الموقف .. فرفضت .. وقالت لى .. أنها ستظل بجوارى مهما تطورت الأحوال ..
     وفى الليل اشتدت الغارات على المطارات .. وضرب المطار الذى بجوارنا .. فغضبت .. وان كنت أعرف أن الطائرات التى فيه عبارة عن هياكل خشبية .. ولكن تملكنى الغضب لأنهم ضربوا المطار ضربا مركزا يدل على علمهم الدقيق بموقعه ..
     وفى الضحى .. أخذت طائرات الأعداء تقترب من الأرض وتضرب الأهالى .. بالمدافع الرشاشة .. وأصيب صبى صغير فى شارع " الأسود " برصاصة .. فسقط وكانت هيلين فى النافذة .. فجرت إليه ووضعته على صدرها .. حتى جاءت عربة الاسعاف ..
***  
     وظلت طول النهار حزينة تبكى .. وفى الليل .. لما رأتنى أشرع فى ارتداء ملابسى لأذهب إلى موقعى .. اقتربت منى وطوقتنى بذراعيها وغمرتنى بقبلاتها وهمست ..
     ـ هل من الضرورى أن تذهب الليلة ؟ ان هناك كثيرين غيرك .. أبق معى ..
     ـ هل أنت خائفة من شىء ..؟
     ـ خائفة من الموت .. لأول مرة فى حياتى ..
     ـ وليس فى استطاعتى أن أتخلف عن واجبى ..
     ـ ذاهب إذن ..؟
     ـ لابد من هذا ..
     وارتمت على صدرى .. وأخذت تبكى ..
***   
     وكان الظلام رهيبا .. والبيوت تبدو كالجبال السوداء .. والأشجار كالأشباح وكانت الرجل تنقطع فى المنطقة من الغروب .. ولاتسمع إلا صوت صفارة الانذار وهمسات الجنود فى الخنادق القريبة .. وومضة سيجارة من حين إلى حين وقد يشق الظلام لسان طويل من الضوء .. وتظهر عربة من عربات السلاح وهى فى طريقها إلى خط النار ..
     وكنت مكلفا بالمرور على ثلاثة شوارع رئيسية فى المنطقة .. ولمحت من بعيد عربة تتوقف .. قريبا من الصحراء .. وقدرت أنها تعطلت أو ضلت الطريق ، فاقتربت منها ووجدتها دبابة ضخمة ذاهبة إلى الميدان وعرفت السائق الطريق فدار دورتين ثم أخذ الشارع الرئيسى ومرت بعده قافلة من العربات والسيارات وهى تسرع إلى الميدان ..
     وفى تلك اللحظة دوت صفارة الانذار وظللت فى مكانى لحظات ثم خرجت إلى الصحراء أنظر إلى بيتى من بعيد وكان غارقا فى الظلام وركزت بصرى فى نافذتنا الوحيدة التى تطل على الصحراء وكأننى أنظر إلى هيلين .. وتصورتها نائمة فى سريرى تحلم وشعرت بالشوق اليها وبهزة الانفعال .. وأدركت أننى أحببتها حبا عنيفا .. وأنها سيطرت على حواسى كلها ..
     وسمعت صوت طائرات الأعداء فوقى فاستدرت وظهر لى ـ وأنا أستدير ـ نور انبعث لحظة من الوجهة الخلفية من السطح .. فركزت بصرى فرأيت بطارية ترسل أضواء .. إلى أعلا .. وبعد لحظات تأكدت أنها اشارات ضوئية .. ترسل إلى طائرات الأعداء ..
     وفكرت سريعا فى الخائن الذى يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل .. وجاءنى الجواب فى الحال .. فقد كان هناك رجل أجنبى يسكن حجرة على السطح ولا شك أنه جاسوس ولمت نفسى لأنى غفلت عن تنبيه السلطات إليه ..
     ورأيت أن أصعد إلى العمارة بنفسى دون أن أحدث أية ضجة .. وأقبض عليه وهو فى غفلة منى متلبسا بجرمه ..
     وعندما دخلت من الباب كان البواب نائما .. وخلعت نعلى قبل أن أصل إلى السطح وكان أزيز الطائرات فوقى يصم الآذان ..
     ولمحت شيئا فى دثار أسود .. يرتكز فى براعة وتخف على حافة السور ويرسل الأضواء .. الحمراء .. والزرقاء .. من شىء فى يده ..
     واقتـربت الطـائرة منـا .. وألقـت قنبلة رهيبة على المطار ..
     وجن جنونى فى هذه اللحظة وسددت بندقيتى إلى الشبح .. وأطلقت .. رصاصة واحدة ..
     وسمعت صرخة مكتومة وهوى الجسم على الأرض ..
     ولما اقتربت محاذرا وتبينت وجههه فى الظلام ذعرت .. لقد رأيت هيلين وفى يدها جهاز اشارة يرسل كل الأضواء فنـزعتـه منهـا ووضعته فى جيبى .. وغطيت جسمها بمعطفى ..
     وأحسست بحركة على السلم .. فجريت نازلا لأصرف الصاعدين .. فى هدوء قبل أن يدرك انسان ما حدث ..
     وكان علىّ أن أدفن عواطفى فى جوف الصحراء قبل أن تشرق الشمس ..
================================   
نشرت القصة بمجلة الرسالة الجديدة 1/7/1958 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
================================

دعوة إلى عرس

عاد عبد العظيم إلى بيته فى المساء وهو شاعر بالتعب فدلف إلى غرفته ليخلع بدلته ويستريح قليلا قبل العشاء .. ودخلت عليه زوجته حسنية وقدمت له مظروفا تركه له أخوه عدلى ساعة الغروب .. فنظر عبد العظيم إلى زوجته مستغربا .. إذ أن صلته بعدلى قد انقطعت منذ سنوات .. منذ وفاة والدهما .. فقد انفصلا وسار كل منهما فى طريقه وتغيرت حياة عدلى فاغتنى .. وأصبح من الأثرياء وبقى عبد العظيم كما هو فقيرا يعيش عيشة بسيطة خالية من كل زخارف الحياة ..
     وكانت تمر سنة وثلاث سنوات ولا يرى فيها الأخ أخاه ولا يسمع حتى عن أخباره .. فلما وجد المظروف تعجب .. وتناوله بسرعة وفضه .. فوجد بطاقة دعوة من أخيه لحضور فرح ابنه كامل طواها على خمسين جنيها ..
     وأمسك زكى بالأوراق المالية فى قبضته وضغط عليها بعنف ثم بسط يده وعاد فقبضها .. مرة ومرات فتكورت الأوراق فى يده وامتزجت بالعرق الذى أخذ يسيل منه .. وتندت عيناه بالدموع .. شعر بطعنة خنجر تنفذ إلى قلبه .. فقد أرسل له أخوه هذا المبلغ ليشترى به ملابس جديدة له ولأسرته حتى يصبحوا لائقين لحضور الفرح .. لأنه يعرف أنهم فقراء ومظهرهم الحالى لا يسر .. ولم يشعر عبد العظيم بمثل هذه الذلة فى حياته فكاد يمزق الأوراق ..
     وقال لزوجته بغضب :
     ـ شايفه بعتلنا إيه ..
     ـ وماله .. أخوك .. ولما ربنا يرزقك ردهم له ..
     ولم يكن يتوقع منها هذا الكلام .. ولكنها رأت الغضب الذى انتشر على وجهه فغالطت نفسها لتخفف من وقع الأمر عليه ..
     ـ لكن أنا مش رايح ..
     ـ لازم تحضر .. علشان بنتك .. تفرح .. وتشوف فرح ابن عمها ويمكن ربنا يرزقنا بعريس .. زى قدرية .. لما راحت فرح ابن خالك صبرى ..
     ـ وانت ..؟
     ـ كلنا لازم نروح .. ومن بكره حشوف فستان كويس لفتحية .. وسكت عبد العظيم .. وعندما جلس ليتعشى شعر بطعم العلقم فى حلقه ..
*** 
     وفى الصباح أخذ من زوجته عشرة جنيهات وأبقى لها الباقى لتشترى لنفسها ولولديه كسوة جديدة .. وهكذا أخذت أسرة عبد العظيم تستعد لهذا الفرح .. بكل امكانياتها .. وانزاحت الغمة عن صدر الرجل عندما رأى ابنته فتحية تستقبل يوم الخميس بقلب طروب .. فقد أخذت تنشغل باختيار لون الحذاء .. والفستان وتتحدث مع صاحباتها وهى منشرحة عن فرح ابن عمها .. ولكن عبد العظيم حتى يوم الإثنين لم يكن قد اشترى أى شىء جديد لنفسه ..
     وكان يسكن تحت مسكنه جار مريض وقد لاقت زوجته كل ضروب الآلام وقسوة الحياة فى سبيل تمريضه فباعت حليها وكل ما يمكن أن يباع .. حتى لم يبق لها شىء .. وأخيرا رحمها الله ومات الرجل فى مساء الثلاثاء فى ساعة متأخرة من الليل .. ولم يكن فى البيت قرش واحد لدفنه وسمع عبد العظيم بموت الرجل .. وأدرك موقف الأرملة المحزن .. فجرى إلى الحانوتى .. ودفع له تكاليف الدفن .. وهكذا طارت الجنيهات العشرة .. ولكنه شعر فى أعماق نفسه بسعادة وطمأنينة لا حد لهما .. واستقر رأيه على أن يكتفى بتنظيف بدلته وكيها ويذهب بها إلى الفرح ..
     وفى يوم الخميس خرجت فتحية وأمها من الساعة الخامسة إلى الفرح وركبتا الأتوبيس من السيدة زينب إلى العباسية الشرقية حيث بيت عدلى .. وبرغم ملابسهما الجديدة كان ظاهرا عليهما الفقر والمسكنة .. وعندما دخلتا القصر ورأتا ما تلبسه المدعوات من فساتين وجواهر .. ندمتا على حضورهما وجلستا فى ركن منزو بعيد عن الأنظار .. ثم طلعتا بعد أن تلألأت الأنوار فى زحمة الفرح فلم يحس بهما انسان ..
     وجاء عبد العظيم ببدلته القديمة .. وكانت المكواة قد زادتها بشاعة فلمعت وظهر عليها القدم .. وكان طوال الطريق إلى الفرح ينظر إليها ويعنى بها ويزيل منها الأوساخ بكمه .. إذا احتك به أحد .. أو التصق بجدار .. وكان الجو حارا وخانقا وملوثا بالغبار .. وكان قد ارتدى القميص الأبيض الوحيد الذى لبسه منذ الصباح .. فلما حل الغروب .. جمع القميص كل أوساخ الطريق ونضح بالعرق .. وتألم الرجل لهذا كله ولسوء الحظ الذى يلازم الفقير .. ولكنه عندما دخل الشارع وعلى ناصيتة الأنوار الساطعة نسى حالته .. وتقدم إلى باب القصر بقلب مطمئن .. ولمحه عدلى وهو واقف على السلاملك فاغتاظ وزمجر .. وهبط الدرج مسرعا والتقى به وهو يجتاز الحديقة وصاح فيه :
     ـ فين البدلة الجديدة .. يا بهيم ..؟ سكرت بالفلوس ..؟
     ولم يقل عبد العظيم شيئا من وقع المفاجأة وحسن الاستقبال .. وشعر بعنقه يلتوى كله ويتصلب .. وفغر فمه مدهوشا .. وسرى الدم الأحمر إلى عينيه .. وبقى واقفا فى مكانه وهو لا يدرى أيرجع أم يدخل وخيل إليه أن جميع الناس سمعت الشتيمة وتحولت تنظر إليه .. فى هذا الموقف المذرى .. فقد أزله الفقر .. حتى انكمش وغدا لا يستطيع رد الإهانة وكتم غضبه وانفعالاته كلها .. حتى لا يبوظ الفرح .. واستدار بجسمه كله فى حركة بطيئة .. وفى تلك اللحظة سمع ابراهيم يقول :
     ـ ودول مين دعاهم .. مصايب .. امشى عليهم .. وروح أقعد فى الجنينة من ورا .. على الكراسى اللى هناك ..
     وتلفت عبد العظيم إلى من يعنيهم أخوه .. فرأى جماعة من أقربائه الفلاحين مقبلين على القصر وكانوا قادمين من القرية .. على طبيعتهم وبساطتهم وقد ظنوا أنهم سيسعدون عدلى باشتراكهم فى فرح ابنه .. فجاءوا جميعا ونسوا فى تلك الساعة كل ما بينه وبينهم من خصومات قديمة وفوارق اجتماعية .. ومشى إليهم عبد العظيم .. ورحب بهم وأخذهم إلى حيث أشار أخوه إلى الجهة الخلفية من الحديقة حيث المكان المخصص لسائقى السيارات والخدم ..
     وجلس الناس الطيبون فى هذا المكان دون أن يحسوا بأية غضاضة فلا فرق عندهم بين انسان وانسان وحملقت عيونهم فى الأنوار واستمعوا إلى الموسيقى .. وكانوا يسرون من أى شىء .. كانت أقل حركة تدخل على قلوبهم البهجة .. وبعد أن زفت العروس ونزلت الراقصة ترقص للرجال .. كانوا هم وحدهم من بين الموجودين جميعا الذين " نقطوها " وأشاعوا الحركة والمرح فى المكان .. وصفقوا وفرحوا .. وحل موعد العشاء .. ولكن عدلى أخر فتح الموائد لأنه كان ينتظر شخصا كبيرا كان حضوره إلى الحفلة سيشرفه .. ويرفع هامته ..
     ولهذا ظل يروح ويجىء على " السلاملك " فى انتظاره ليكون أول من يصعد به درجات القصر .. ولكن هذا الإنسان الكبير لم يحضر إلى آخر لحظة .. فاغتاظ عدلى وتغير لونه .. وصب نقمته على من يلقاه من الخدم .. وعلى عازف على القيثارة بائس .. كان يقترب من الباب ويعزف لحنا مفرحا وفى كل لحظة كان عدلى يأمر الخدم بطرده ونهره ..
     ثم أخذ عدلى والعريس يدعوان المدعوين إلى موائد العشاء ..
     وأكل الوجهاء والأغنياء أولا .. ولما فرغوا من الطعام مدت مائدة واحدة من البقايا لأهل القرية وأكل معهم عبد العظيم ..
     وكانت موائد النساء فى الطابق العلوى .. وتقدمت سيدة رقيقة إلى زوجة عبد العظيم تدعوها للطعام .. فاعتذرت بأنها لا تتعشى قط واكتفت بما أكلته من الحلوى ..
     أما فتحية فكانت واقفة مع بعض الآنسات .. ولما بدأ الطعام وشعرت بأنها غريبة على هذا الوسط من النساء أخذت تتراجع إلى الموائد الخلفية .. ثم انتهزت فرصة انشغالهن بالطعام ونزلت إلى الحديقة .. ساهمة حالمة .. وكان هناك أطفال يجرون ويلعبون فى ناحية .. فجلست على كرسى وحدها .. وسمعت من يقول :
     ـ سأعزف لك لحنا .. أيتها العروس .. إن جمالك يبهر الأبصار ..
     فجفلت وتلفتت فوجدت عازف القيثارة يقف خارج السور .. وأوراق الأشجار وقناديل النور .. تتمايل وتغنى معه ..
     وانتهى اللحن .. فوضعت يدها الصغيرة فى كيسها وأخرجت له خمسة قروش .. فرفض وقال :
     ـ إننى عزفت اللحن للذتى الخاصة .. لقد بهرنى جمالك .. ولا أشوه هذا الجمال وهذه اللذة .. بأى شىء مادى ..
     وسمعت من ينادى :
     ـ فتحية ..
     فتلفتت فتحية وكانت احدى قريباتها تناديها ..
     وقال عازف القيثارة :
     ـ فتحية اسم جميل ..
     ـ مرسى ..
     ـ العروسة تسكن فى هذا الحى ..؟
     ـ العريس ابن عمى ..
     ـ والآنسة مخطوبة ..؟
     وظهر أحمر الخد على خديها .. ولم تنبس .. وتركت المكان ..
      وبعد قليل جاء شاب إلى عازف القيثار .. وسأله بلهفة :
     ـ هل تعرف الآنسة .. التى كنت تحادثها ..؟
     ـ نعم ..
     ـ من هى ..؟
     ـ انها ابنة عم العريس ..
     ـ وأبوها عايش ..؟
     ـ أظنه مات من زمان ..
     وسمع عبد العظيم هذا الكلام وهو يمشى فى الحديقة فتوارى عن الأنظار ..
*** 
     ودخل عبد العظيم البيت بعد أن عادت زوجته وابنته من الفرح .. وظل ساهرا فى غرفته .. وقد شعر لأول مرة فى حياته بضآلته وبغبن أخيه الذى أثار أشجانه وحوله من سكينة النفس إلى القلق والشعور بالهوان ..
     وبعد أيام قليلة دخلت عليه زوجته فرحة .. وقالت له :
     ـ إن شابا متعلما ومن أسرة طيبة يريد أن يخطب فتحية .. بعد أن رآها فى بيت عمها ليلة الفرح ..
     وأضافت الست حسنية وهى تهتز من الفرح ..
     ـ والشاب ميعرفش أنك فى مصر خالص .. إعمل معروف .. ماضيعش مستقبل البنت .. إحنا مالناش غيرها .. أنا واخداها ورايحة بيت عمها وانت البس بدلة نظيفة وتعال ورانا ..
*** 
     وبعد أن خرجت حسنية وفتحية بساعة .. خيم الظلام والسكون على البيت وأغلق عبد العظيم على نفسه الباب .. وأطلق العنان لعبراته ..
     ودقت الساعة فى بيت عبد العظيم سبع دقات وكانت كل مرة ترسل نفحا موسيقيا عذبا يطرب له كل من يسمعه .. ولكن فى هذه المرة كان صوتها حزينا مكتوما .. ولم يكن هناك أحد يسمعها على الاطلاق ..


===========================================
نشرت القصة فى م . الجيل بالعدد 185 فى 11/7/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
============================================
    
 




 





فى الليل

انقضى الصيف .. وأخذ المصطافون يرحلون عن الإسكندرية .. وكما ذهب عبد الحميد وأسرته إليها بالسيارة عادوا بها وحملوها أضعاف ما تحمل ..
وجلس عبد الحميد فى مقعد القيادة وبجواره زوجته مديحة وابنه عادل .. وانحشر فى المقعد الخلفى باقى الأسرة .. واتخذوا طريق سموحة .. وعندما بلغوا البحيرة كان قرص الشمس يسقط فى جوفها والنسيم منعشا والطريق أخذ يخلو من السيارات .. وكان عبد الحميد يسرع برغم تعلق ابنه عادل بذراعه .. وسؤاله عن كل مايشاهده من أشياء غريبة .. فى الصحراء ..
وكانت الصحراء على الجانبين منبسطة كالحصير .. والرؤية واضحة فلم يخيم الليل بعد .. وشاهد عبد الحميد من بعيد بعض الأعراب يعبرون بالإبل والغنم .. طريق السيارات ويغيبون فى جوف الصحراء .. كما رأى أكثر من رجل يسير على سيف الطريق المرصوف .. كأنه ضال أو شارد .. وبيده عصاة .. وعلى كتفه جراب .. ولا يراه ينحرف فى سيره قيد ذراع إلى اليمين أو إلى الشمال حتى لو سمع تنبيه السيارات التى تمضى بجواره كالسهام ..
***
وسقط الظلام وأخذ عبد الحميد يتضايق من السيارات القادمة فى الاتجاه المضاد ومن أنوارها الكاشفة التى تعشى الأبصار .. وكان يرى عن يمينه وشماله بقايا معسكرات الإنجليز المتهدمة لاتزال تأكلها الرمال .. وأعمدة الأسلاك التليفونية ممتدة فى خطوط متعرجة .. صامتة وكئيبة .. وبقى على استراحة شل فى تقديره نصف ساعة فأسرع عندما سمع أحد أطفاله يطلب الماء .. ولمح ثلاثة أو أربعة جمال ووراءهم رجل وبعض الغلمان يسيرون كما اتفق .. وكانوا بعيدين عن الطريق فلم يخفف من سرعته .. وفجأة لمح شيئا يجرى أمامه .. كأنه خرج من جوف الأرض .. فضغط على الفرامل بقوة وفى نفس اللحظة أحس بذلك الجسم يصدم السيارة ويغيب تحت العجلات .. مر كل شىء فى لحظة خاطفة وأغمض عبد الحميد عينيه .. وأحس بالعرق يتفصد من جبينه .. وهدأت السيارة .. ثم وجد نفسه يسرع فى جنون كأنه يخشى من يطارده .. وغدا ينظر إلى الفضاء وإلى الطريق .. ولا يبصر شيئا .. ولا يدرى كيف كانت تمضى السيارة ..
ورأى زوجته تفتح عينيها وكانت قد غفت قليلا وتنظر إلى العرق على وجهه :
ـ عبد الحميد أنت تعبت ..؟
ـ أبدا ..
وأراد أن يتأكد فسألها :
ـ أنت أحسست بشىء ..؟
ـ أبدا .. كنت نايمة .. فيه إيه ..؟
ـ لا شىء .. تأخرنا فقط ..
وحمد الله على أنها لم تحس بالجسم الحى الذى سقط تحت السيارة .. ورأى أن يكتم عنها ما حدث ..
وقال لها :
ـ خذى عادل عليكى يبدو أنه نام ..
وعجبت لبحة صوته المخنوق .. كأن أحدا أجرى الموسى على عنقه .. وعجب أكثر لأن الظلام اشتد فى نظره فى الأفق وعبر الصحراء .. مع أن القمر قد طلع .. وظهرت أنوار البرج الكشاف وهو يتحرك هناك فى الاستراحة ..
وأخذ السواد يلفه .. ويكتنف نفسه .. فلعن الصيف .. وكل من أشار عليه بالذهاب إلى الإسكندرية .. ولعن زوجته التى أصرت على أخذ السيارة .. ولعن القدر الذى وضع هذا الرجل فى طريقه فى ساعة منحوسة .. وود لو وقف بعد الحادث مباشرة .. ليعرف الذى مرت عليه العجلات .. أرجل هو أم امرأة .. أعجوز استوفى عمره أم غلام صغير ..؟ وارتعد لهذا الخاطر الأخير وانتفض وهو ينظر إلى ابنه بجواره ..
وعجب للحياة والأقدار .. التى تسود وجه كل شىء مفرح فى لحظة .. فقد ماتت فى نفسه المباهج .. والمناظر الجميلة التى رآها فى الطريق وأخذت بلبه وصمتت الضحكات التى كانت تنطق من فمه وهو يحادث زوجته وأولاده .. مات كل شىء فى لحظة .. وغدا صامتا أخرس ..
وعندما بلغ الاستراحة .. وخرج من السيارة .. ووجد نفسه يسير على الأرض كما كان .. ولم يسأله أحد عن شىء أو يعترض طريقه تنفس الصعداء .. وخيل إليه أنه أزاح الكابوس الخانق عن صدره إلى الأبد ..
***
ولكن لما جلس إلى المائدة فى الشرفة .. ونظر إلى الصحراء .. والطريق .. عاودته الخواطر المفزعة .. وطلب أكثر من فنجان من القهوة وجلس يدخن بشراهة .. وكان يتعذب لأنه صدم إنسانا فى الظلام ولا يدرى أتركه حيا أم ميتا ..
ومع أنه مرت وراءه أكثر من سيارة .. وضاعت الجريمة فى تيه الصحراء وظلامه .. ولكنه شعر بالقلق وبوجدانه يرمضه ..
وشاهد كونستبلا من رجال المرور يوقف موتسيكله فى الدوران المخصص لوقوف السيارات .. فتصور أنه جاء ليأخذ رقم سيارته ويسأل عن صاحبها .. فغاص قلبه ولكنه اطمأن عندما أدرك أن الكونستابل قادم من طريق القاهرة .. وأنه لا يدرى شيئا عن الموضوع ..!!
وهم بأن ينزل إليه ويحدثه بما جرى فى الطريق .. ولكنه وجد جسمه يتصلب على المقعد ..
ولاحظت زوجته شروده .. ولما سألته عن السبب قال لها أنه شعر بالمرض فجأة .. وربما لأنه أطال المكوث فى البحر أمس .. وقال لها أنه لايجد الأعصاب ليسوق السيارة .. والأحسن أن يستريحوا فى الاستراحة إلى الصباح .. وحجز غرفة فعلا وصعدوا إليها جميعا ليناموا .. ولكنه لم ينم ..
***
وعلى ضوء الفجر .. فتح باب الاستراحة الزجاجى .. وتسلل إلى السيارة .. وعندما لاحظ آثار الدم على الرفرف .. توقفت ضربات قلبه .. ودارت به الأرض .. ولكنه تماسك وركب السيارة .. ووجد نفسه يسوق فى الطريق الذى قطعه بالأمس .. وكان قلبه يدق بشدة .. ولكنه كان يود أن يكتشف فى وضح النهار ما حدث فى الظلام .. يود أن يعرف كل شىء وليذهبوا به بعد ذلك إلى المشنقة ..
وفى المكان الذى قدره بحواسه .. والذى يعرفه جيدا .. مهما كان الليل والظلام رأى جسما أسمر ملقى على الأسفلت فى وسط الطريق .. وحوله خيوط حمراء من الدم ..
وعندما اقترب منه جيدا وتوضحه .. رقص قلبه من فرحة النجاة .. لقد كان ذئبا أغبر من ذئاب الصحراء ..
وعاد إلى الاستراحة وكأنه ولد من جديد ..




======================================== 
نشرت القصة فى صحيفة الأهرام بالعدد 25317 بتاريخ 24/3/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
==========================================










معشوق النساء

اعتدت منذ سنوات أن أشترى بعض الكتب الأجنبية من مكتبة كبيرة كانت تقع فى شارع الانتكخانة قريبا من حى السوق ..
وكانت تشغل الطابق الأرضى من بناية قديمة .. وكان صاحبها زكى أفندى يجيد اللغة الفرنسية كما يبدو ..
ولكنه لم يكن عنده أية دراية بنظام المكتبات فقد وضع فيها الكتب كما اتفق دون أقل ترتيب فالروايات الإنجليزية بجانب الفرنسية والإيطالية .. والمعاجم بجانب كتب الاقتصاد .. كما ترك طبقة سميكة من الغبار تتكون كل يوم على الأرفف والكتب ..
وكان الرجل بليدا بطىء الحركة .. يطبع على شفتيه ابتسامة أبدية يستقبل بها كل من يدخل المكتبة .. وكنت أفزع من التراب الذى المسه بأصابعى وأنا أقلب فى الكتب وأغتاظ من بلادته العجيبة .. ولكننى مع ذلك كنت أتردد عليه .. لأنى كنت أجد فيه ميزة قل أن توجد فى بائع .. فقد كان يأتينى بكل ما أطلبه من الكتب حتى وإن كان الكتاب قد نفد من السوق ..
وكانت للمكتبة ممرات داخلية ملتوية ملأها برفوف الكتب على الجانبين .. وتركها دون اضاءة اطلاقا ..
وما انسبت فى هذه الممرات إلا وتصورتها ملأى بالثعابين أو فيها من بقايا مكتبة الإسكندرية المحترقة ..
وكانت هناك غرفة داخلية فى نهاية الممر تجلس فيها فتاة أجنبية تدق على الآلة الكاتبة ..
وكانت تعمل فى هذا الضوء الشاحب ووسط التراب والكتب القديمة وأكداس من الورق ملقاة فى غير نظام ..
وكان زكى أفندى طويلا سمين الخدين .. كبير الرأس .. وعيناه الخضراوان ثابتتى الحملقة .. وفيهما أثر واضح من بلادته ..
وتراه فى كل وقت فاتحا فمه .. فى بلاهة تحار فى كنهها ..
وكان دائم اللبس للطربوش فى الصيف والشتاء ..
وكنت كلما مررت على المكتبة فى أية ساعة من النهار أو الليل أراه جالسا فى المدخل .. تحت الضوء الخابى .. والتراب يغطى سترته والذباب يلسع وجهه .. ولم أكن أراه يتحرك ليبيع كتابا لزبون ..
وكان أكثر المترددات عليه من صنف النساء من الفتيات اللواتى يطالعن الروايات الغرامية والبوليسية والسيدات اللاتى لا تفوتهن مجلة من مجلات الأزياء ..
وكان يتحرك لهؤلاء ولكن فى بطئه المعهود .. وبطريقته الباردة فى البيع والشراء .. وكنت فى كثير من الأحايين أدخل المكتبة وأهبط درجاتها إلى الجزء الأسفل منها فى الضوء الخافت .. فلا أسمع حسه ولا يقع عليه بصرى فأتصوره غير موجود .. وأعجب لتركه المكتبة للمارة .. ثم أراه يطلع علىّ من الداخل كأنما انشقت عنه الأرض .. أو يأتى من الخارج كأنه هبط بالمظلة .. ولم يكن يحمل على وجهه وقع المفاجأة أبدا .. كان دائما يتحرك بمقدار ويتحدث بمقدار ..
ولكثرة طلوعه لملاقاتى من الداخل ومن جوف الظلام قدرت أن بينه وبين الفتاة العاملة عنده علاقة آثمة .. وكانت الفتاة جميلة وجذابة .. ولم استبعد وجود أية علاقة بينهما .. وكان برغم بلادته وكونه لا يعتنى بمظهره وأنه تعدى سن الشباب لا يزال أعزب .. وفيه ميزة تدركها البنت وتحس بها المرأة .. بحاستها الأنثوية ..
وكنت أحسده على المودة التى يلاقيها من الفتيات والنظرة الحالمة التى تطل من عيونهن كلما حادثنه وكانت خدودهن تتورد كأنهن قد وقعن على فارس أحلامهن ..
وكنت أحار كثيرا وأنا أحاول أن استشف الظاهرة الخفية التى تجعل الفتيات يقبلن عليه هكذا ويعشقن محله .. برغم أنه يقابلهن ببلادة .. ثم خمنت أنه ربما كان يخفض لهن الثمن أو يبيعهن بالأجل .. أو يلقى إلى سمعهن بكلمات الغزل .. فينتفضن لها .. ومنهن الضائعات فى تيه هذا المجتمع .. واللواتى يتعلقن بقشة لتنقذهن من سعير الحياة ..
وسمعته ذات مساء وأنا أنصرف عنه فى تقليب صفحات كتاب يجادل زبونة وكان ثائرا على غير عادته ..
فلما مضت الفتاة وخرجت من المكتبة قال :
ـ تصور .. أنها تدعى بأنها دفعت لى ثمن المجلات .. وأنا لست مسطولا حتى أنسى الأمر فى دقيقة .. وليس فى المحل زبون سواها .. وسواك ..
ـ ربما كانت ناسية .. وذاكرة النساء دائما ضعيفة ..
ـ إن كانت المسألة مسألة نسيان فانها دائما تنسى وتجىء المحل لتغالطنى وتجادل وتساوم فيما قيمته عشرة قروش .. كأنها ستشترى عمارة ..
ـ لقد سقطت منها الورقة التى غالطتك فيها وهاهى ..
ونظر إلى ورقة بعشرة قروش جديدة كانت ملقاة على الأرض وابيض وجهه ثم انحنى والتقطها سريعا ووضعها فى جيبه ..
ـ لا .. إنها سقطت منى ولا تخصها ..
ـ إنى أراها كثيرة التردد على المكتبة .. هل هى يهودية ..؟
ـ أجل .. وما أكثر اليهوديات فى هذا الحى .. فى معروف .. وشامبليون .. ومنطقة قصر النيل كلها .. وجميعهن يقرأن الروايات البوليسية والخياطات منهن يطلبن مجلات الأزياء .. ولكن طريقتهن فى الدفع واحدة ..
ـوحتى العجوز منهن ..؟
ـ أن ميسالينا .. لم تكن شابة أبدا ولا كانت زليخة ..!
ـ هذا صحيح .. وأنا كلما رأيت هذه الفتاة عندك .. يخيل إلىّ أنى شاهدتها ..
ـ إن أمها ميتة ..
ـ ولكنى شاهدتها عندما كانت صغيرة .. فى سن الفتاة ..
ـ هنا فى حى معروف ..؟
ـ لا .. فى البحر .. فى سفينة ضخمة من عابرات المحيط .. وكانت ممتلئة بالركاب .. والقمرات كلها مشغولة .. وفى موانى .. استامبول وبيريه ونابولى .. كان ينزل ركاب ويصعد ركاب جدد .. وكانوا جميعا من اليهود ووجهتهم ميناء حيفا .. وكانوا قد بدءوا فى هجرتهم المبيته إلى فلسطين .. وكان نصفهم على الأقل من النساء فاذا تحركت فى الليل على ظهر المركب .. تتعثر قدماك فى الظلام فى الحبال وفى نساء يتلوين فى أحضان الرجال كالثعابين ..
فقد انطلقن بعد ساعة واحدة من ركوبهن السفينة يتصيدن الركاب .. وأصبح لكل واحدة منهن عشيقا ..
وكان منهن من لايرغب فى النوم على السطح فماذا يعملن وليس فى السفينة أماكن ..! لقد استطعن أن يحصلن على " قمرات " البحارة ..!
ـ ودفعن الثمن ..؟
ـ طبعا .. وليس بالعملة النقدية ..!
ودخل زبون المكتبة فقطع علينا الحديث ..
واشتريت كتابا وخرجت إلى الطريق ..
***
   وفى ظهر يوم .. دخلت المكتبة .. فلم أجده ولم أحس به ثم ظهر بعد أربع دقائق .. وكان وجهه متغيرا والعرق يكاد يسيل منه ..
وأدركت من اضطرابه أنه ربما كان مع الفتاة بالداخل  .. ولم يكن يتوقع قدوم أحد فى مثل هذه الساعة من النهار .. ساعة القيلولة ..
ولأول مرة أراه يعرض علىّ بعض الكتب الجديدة ويظهر اللهفة على البيع وينشط مع أن هذا لم يكن من صفاته أبدا ..
***
وذات ليلة سمعت وأنا داخل المكتبة حركة رتيبة أشبه بحركة الآلة .. فسألته :
ـ هل عندك دينامو خاص ..؟
ـ لماذا ..؟
واصفر وجهه ..
ـ الإضاءة خفيفة .. ويبدو أن الدينامو استهلك ..
وضحك وهو يقول :
ـ هل تعرف أننى فكرت فى أن أغير الاضاءة كلها فى الداخل والخارج .. وأدخل أنوار النيون فى الواجهة .. لا بد أن أتطور مع الزمن لأجلب زبائن جددا لأن الزبائن القدامى يتناقصون على مر الأيام .. ويجب أن أفكر فى الزبائن الجدد ..
ـ هذا عين الصواب يجب أن تتطور مع الحياة ..
***
 ومررت على المكتبة بعد عشرة أيام وكنت أبحث عن نسخة من دافيد كوبرفيلد فلم أجد شيئا قد تغير .. كان كل شىء كما الفته .. والظلام على حاله .. ولم أجد زكى أفندى ووجدت الفتاة فى مكانها فحدثتها عن الكتاب .. فقالت لى :
ـ ابحث على الرفوف .. فأنا لا أعرف طريقته فى وضع الكتب ..
ودخلت أبحث فى صفوف الكتب الإنجليزية .. وكان الوقت ظهرا والنور يغشى الأبصار فى الخارج .. ولكن الاضاءة كانت ضعيفة فى داخل الممر .. واستطعت أن أقرا العناوين بصعوبة وكنت أضطر لأن أرفع الكتاب عن الرف لأستطيع أن أقرأ عنوانه ثم أضعه ..
ولمحت وأنا أفعل ذلك شيئا معدنيا يصطدم بأصابعى شيئا كالأسطوانة .. وانحنيت برأسى وقربت بصرى لأستشف مكنون هذا الشىء .. ولكن فى أثناء هذه الحركة سمعت خطوات زكى أفندى وهو يقترب منى .. فوضعت الكتب سريعا على الرف ..
ودخل هادئا بطىء الخطو كعادته ولكننى وجدت فى عينيه نظرة أفزعتنى ..
وسألنى :
ـ عم تبحث ..؟
ـ دافيد كوبرفيلد ..
سأجد لك نسخة .. وإذا مررت غدا ستجدها ..
ولم يتحرك ليسوى الكتب كما كانت ..
وكان يأخذ المكان كله بنظرة خاملة ولكنها شاملة ..
***
وذات يوم دخلت المكتبة فوجدت الفتاة فوق المقعد تنقر على الآلة الكاتبة وحييتها برأسى ..
ودخلت إلى الممر .. وأخذت أقلب فى الكتب وأحركها وأنا اقترب من المكان .. وتلفت فوجدت الفتاة مشغولة بعملها ولا أحد قريب منى .. وقدرت أن زكى فى الخارج يتسوق بعض الكتب القديمة كعادته ..
ولم أسمع حسا .. وأصبح المكان لى وحدى ..
وعلى الضوء الشاحب حركت الكتب .. ورأيت شيئا .. جعلنى أحملق فى عجب .. رأيت بابا صغيرا وضع فى خفاء فى تجويف فى الحائط ووضعت أذنى وسمعت نفس الحركة التى سمعتها من قبل .. ولكن بوضوح فى هذه المرة ..
وضغطت على الباب فوجدته مغلقا .. ورأيت ضوءا خفيفا من الداخل ينبعث من فرجة صغيرة فى الباب .. فنظرت واستطعت أن أرى رأس زكى أفندى أولا .. ثم يده وهى تمسك بحزمة من الأوراق المقصوصة .. ورأيت مطبعة صغيرة تعمل .. فى لين .. وتخرج منها أوراق البنكنوت الصغيرة ..
وتذكرت الورقة التى رأيتها منذ أيام على الأرض .. والتقطها وأخفاها بسرعة واقتربت أكثر .. وأنا أحملق فى ذهول .. ولا أدرى هل بصر بى أم أحس بأنفاسى وأنا أرقبه ..
فقد وجدت الباب ينفتح فجأة ووجدنى خلفه وجحظت عيناه وأمسك بى من رقبتى بمخالب من حديد ..
وصرخت وسمعتنى الفتاة فصرخت ونحن نتصارع صراع الموت .. وقد سقط كل ما حولنا ..
وتجمع الناس فى الخارج .. وكنت فى شبه غيبوبة .. وأنا أسمع صفارة عربة البوليس وهى تقترب من المكان ..
ولم يكن هناك أحد من الذين تجمعوا حول العربة قد عرف ما يجرى هناك فى الداخل ..
وما أحسب الفتاة العاملة نفسها كانت تعرف شيئا ..





======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 449 بتاريخ 1/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
======================  















النافذة الخلفية

منذ سنوات وقع علىّ الاختيار لتصحيح أوراق امتحان البكالوريا .. وكان مركز اللجنة الرئيسى بمدينة القاهرة .. فأخذت أعد العدة للسفر ولم أكن أحب النزول فى الفنادق .. وعلى الأخص فى الصيف وفى وقت الأجازات .. فسألت من أتوسم فيه المعرفة عن نزل هادىء .. بعيد عن صخب المدينة لأريح فيه أعصابى بعد مشقة تصحيح الأوراق .. ففوجئت بشىء لم أكن أتوقعه اصلا .. إذ وجدت شقة جميلة فى قلب العاصمة يسكنها رجل أعمال أعرفه معرفة وثيقة .. وكان قد أجرها ثم صرفته أعماله الكثيرة فى مدينة الإسكندرية عن الإقامة فيها .. ولكنه احتجزها لنفسه وظل يدفع إيجارها سنة كاملة وهو لا يمر بها إلا عابرا .. فلما فاتحته فى الأمر وأبديت له رغبتى فى أن أقيم فيها فى عطلة الصيف رحب وأعطانى المفتاح ..
وكانت الشقة فى الدور الرابع من عمارة كبيرة تقع فى شارع الانتكخانة ..
وكانت أنيقة وطيبة الهواء وتعتبر فى أجمل الأحياء طرا .. وكنت أخرج منها ماشيا على قدمى إلى الأوبرا وإلى العتبة وإلى كل مكان ..
وكان مقر لجنة الامتحان بمدرسة التجارة بالمنيرة .. فكنت أبرح اللجنة فى حوالى الساعة التاسعة ليلا .. وأتخذ طريقى إلى ساحل النيل .. وأرى ضوء القمر الباهر يتلألأ شعاعه على صفحة الماء والأنفاس اللينة تخفف من حرارة الجو .. وترطب وجهى ..
وكان العمل فى تصحيح الأوراق وتقدير الدرجات يمر فى جو مشحون بالحرارة الخانقة والأعصاب المتوترة وكنا فى شهر يولية أشد الشهور حرارة فى القاهرة ..
فبعد التعب والارهاق العصبى كنت أحس برغبة شديدة فى التريض والترويح عن النفس ..
فأتعشى وأذهب فى أغلب الحالات إلى السينما أو المسرح .. فى الحفلات الليلية واتخذ طريقى إلى البيت والساعة تدق الواحدة صباحا ..
وكانت الشقة مكونة من ثلاث غرف جميلة وصالة فسيحة .. وكان صاحبها معنيا بأثاثه وفراشه مع بساطة تسر العين وتشرح القلب ..
***
وجلست ذات ليلة مسترخيا على كرسى طويل بعد أكلة شهية .. وكنت أفكر فى الحياة الجافة التى يحياها الأعزب مهما كانت وسائل الراحة الميسرة له فى البيت وخارجه فهو يحس بالجفاف والعدم .. وأنه إنسان يعيش لغير غاية ولا أمل .. وأنه لا ينمى شجرة الحياة ويحملها بالثمر بل يعمل بسلبيته وانعزاله على جفافها وموتها ..
وكانت العمارة كلها ساكنة .. ويبدو أن أكثر سكانها قد بارحوها إلى المصيف .. وشق السكون صرخة حادة .. صرخة امرأة .. فلما تطلعت من النافذة الخلفية ونظرت إلى أسفل استوضح الأمر .. رأيت فى المنور .. رجلا يخرج كالسهم من باب المطبخ فى الطابق الثالث ويجرى على سلم الخدم وثبا .. وغاب عن بصرى فى لحظات سريعة ..
وفى اللحظة نفسها كان هناك رجل آخر فى داخل الشقة التى خرج منها الرجل الهارب يمسك بامرأة ويوجعها من الضرب .. وكانت المرأة تشهق شهقات مخنوقة تمزق نياط القلب ..
وما عتم الرجل أن أغلق النافذة المطلة على المنور فلم أعد أبصر شيئا .. وخيم السكون على البيت من جديد .. وأخذت اسمع هذا البكاء المخنوق الذى تمزقه الشهقات فى هذه الشقة كلما عدت إلى البيت متأخرا .. وكأن الرجل قد اختار الساعة نفسها التى شاهد فيها المنظر .. ليذكر المرأة به ..
وكنت أريد أن أشاهد السيدة المضروبة وجها لوجه .. ولكن لم أوفق قط ..
فقد كانت النافذة الوحيدة التى أستطيع أن أراها منها والمطلة من شقتها على المنور مغلقة دائما وخيل إلىّ أنها مثبته بالمسامير .. إذ لم أر مصراعها يتحرك أبدا ..
***
وحدث فى ليلة شديدة الحرارة .. وكنت أحس بتعب شديد .. فاتجهت إلى البيت مباشرة بعد لجنة الامتحان لأتخفف من ملابسى .. واستلقى فى الشرفة متلمسا النسيم العابر إلى أن يطلع النهار .. وفتحت الباب وتخطيت العتبة .. ومشيت إلى الردهة .. الداخلية ورأيت .. وأنا أفتح نافذة المنور البحرية لأدخل الهواء .. شيئا جعلنى أهتز فقد وجدت النافذة الخلفية فى الشقة التى سمعت فيها الصراخ مفتوحة لأول مرة .. ورأيت السيدة التى كان الرجل يضربها .. فى الضوء الباهر .. وفى سكون الليل .. وتأملتها طويلا .. دون أن يزعجنا إنسان .. كانت شابة صغيرة الوجه جميلة التقاطيع .. لابسه قميصا بيتيا فضفاضا وجالسة على كنبه فى الركن وفى ظل المصباح المغطى بالحرير الأزرق وقد أطلقت خصائل شعرها .. ونكست رأسها .. وكانت تعطينى جانب الظل للمنظر كله وهى ساكنة الطرف ووجهها لا يعبر عن شىء أبدا .. ولكن بعد لحظات رأيت طيف ابتسامة باهتة يرتسم على الشفة كأن حلم العذراء يطوف لأول مرة فى رأس مشحون بالأسى ..
ووقفت اتأملها ساكن الأنفاس دون أن أبدى أية حركة توقظها من غفوتها التى لا حس فيها ..
وكان المصباح الصغير المغطى بالحرير يرسل نورا أزرق على الردهة الجميلة .. وعلى السيدة الأكثر فتنة .. فيجعل المنظر كله كأنما أعد لرسام ..
وكان الحر يشتد فى الواقع كلما أوغلنا فى الليل كأن أتونا من النار يرسل اللهيب إلى الجو كله فحركت المرأة يدها فى تعب واسترخاء .. على عروة القميص وغيرت موضعه .. ورأيت خطا أزرق على اللحم الطرى .. مما يلى الترقوة .. لسعة باهتة ولكنها رسمت بغيظ .. وظهر مثلها على الخد .. فتحركت نفسى .. وتذكرت صراخ الليل .. وضرب الرجل لها .. ولكننى لم أشعر نحوها بالشفقة وقد يكون ذلك لأنى استبشع الخيانة وأعد فعلتها نكراء .. وقد يكون لأنى حتى هذه اللحظة لم أعرف الحقيقة .. ولهذا ظل شعورى نحو هذه المرأة جامدا ..
***
 وبقيت فى القاهرة حتى اقترب شهر أكتوبر .. وكنت أرى هذه السيدة من النافذة الخلفية .. من حين إلى حين .. وأسمع بكاءها المكتوم فى الليل .. وأعرف أن الرجل مازال على حاله معها .. مازال يضربها كل ليلة .. لم يغفر لها فعلتها قط ..
وكان الخط الأزرق الذى ارتسم على خدها كعلامة تصمها بالعار يعمق فى نظرى ويكبر ..
***
وفى ليلة مقمرة وكان الجو فيها قد تلطف .. رأيت حركة غير مألوفة فى شقة الرجل .. وكانت النافذة الخلفية مفتوحة .. فرأيته هو يروح ويجىء فى الردهة .. ولم أر المرأة ولم أسمع بكاءها أو صراخها .. ولكنى سمعت بكاء طفل .. طفل وليد ..
ولم أسمع المرأة تبكى بعد هذه الليلة .. ولا أدرى هل ماتت فى المخاض أو أن الرجل غفر لها بعد أن أصبحت أما ..



======================================  
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 497 بتاريخ 3/7/1961 وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
=====================  ================  










الجمال الحزين



     ذهبت إلى الإسكندرية فى شهر أكتوبر الماضى .. وأخذت معى مفتاح بيت عمى عبد اللطيف فى حى مصطفى باشا وقد اعتدت أن أقضى فى هذا البيت الشهر الأخير من الصيف وحدى لأريح نفسى وأعصابى بعد العمل الشاق .. على مدار السنة ..
     وبلغت المنزل بسيارتى فى الساعة التاسعة مساء .. ووجدت النور الكهربى مقطوعا والتراب يغطى الأرض كأنه بساط .. ومع ذلك قررت أن أنام فى البيت مهما كانت الظروف لأنى أكره الفنادق والبنسيونات فى هذه المدينه ورأيت أن أستعين بشمعة لأهيئ لنفسى فراشا فى أى مكان ..
     وقرعت باب ( مدام مارى ) صاحبة الفيلا الملاصقة لبيت عمى وكانت من معارفى .. ولم تفتح هى الباب .. ووجدت بدلها سيدة متوسطة العمر مصرية الملامح والنظرات ..
      وسألت عن المدام فقالت لى بأنها باعت الفيلا وسافرت إلى بلادها منذ ثلاثة أشهر .. واعتذرت لإزعاجها .. وعرفتها بشخصى .. وبالنور المقطوع .. فجرت إلى الداخل وعادت تحمل مصباحا صغيرا .. وشكرتها ..
      ودخلت البيت لأنام ..  وفى الصباح أعدت إليها المصباح وأنا أكرر الشكر .. وجئت بمن نظف البيت وأعانتنى السيدة نعمات بخادمتها لتخرج الفراش إلى الشمس وتقدم لى ما أحتاج إليه .. شكرتها وأنا أشعر بالخجل .. فلما قالت أن زوجة عمى عبد اللطيف هى أعز صديقة لها .. تركت الأمور تجرى ..
     ونمت فى الليلة التالية مستريحا ومرت الأيام .. وأصبحت أرى الجارة نعمات فى حديقة منزلها الصغير أو فى المطبخ .. أو فى شرفة البيت الخارجية.. وكانت شفتاها تنفرجان عن ابتسامة خفيفة عندما ترانى .. وكان وجهها صامتا وحزينا .. ورأيت والدتها وكانت سيدة مسنة وشعرها أبيض كفروة الخروف الأبيض .. وكانت لاتتحرك إلا قليلا .. ثم الخادمة نجية .. وهذه هى الأسرة التى حلت مكان مدام مارى .. فى هذه الفيلا الجميلة ..
     وكانت نعمات .. تخرج من الفيلا فى الصباح الباكر .. حاملة حقيبة صغيرة.. وعرفت أنها مدرسة فى مدرسة أجنبية فى الرمل .. وأنها أرملة .. ومات زوجها الشاب فى حادثة مروعة فأدركت سر حزنها ..
     وكنت أحييها كلما وقع عليها نظرى فى الصباح بايماءة من رأسى .. ثم أصبحت أحييها بيدى ولسانى .. إذا تصادف وخرجنا إلى الشارع فى وقت واحد لنبتاع صحف الصباح من الغلام المقطوع الساق الجالس على الناصية ..
     وكنت أقف وأتحدث معها قليلا .. إذا وجدتها عرضا فى الطريق .. أو فى محطة الرمل .. وكنت أرى فى عينيها النظرة المتجاوبة .. وبريق المودة .. وكنت صادق الرغبة فى توثيق الصلة بها .. فقد شعرت عندما التقيت بها لأول مرة بميل إليها وشفقة على جمالها الحزين ..
     وكنت ألاحظ أن لا أحد يختلط بها وهى من جانبها لاتختلط بإنسان فى الطريق .. أو فى البيت .. فهى تعيش وحدها كالمنبوذة ..
     وكانت تقطع الطريق من المدرسة إلى البيت وحدها .. وتسير دون رفيق .. صامتة تجتر أحزانها ..
     وكان وجودها فى مدرسة أجنبية قد جعلها متحررة .. وكان من يراها وهى تسير بسرعة فى الشارع .. أو راكبة أو نازلة من الترام .. يتصور أنها أجنبية ..
     ولكننى لم اشاهدها على البحر فى يوم الأحد وهو يوم العطلة عندها .. ولا فى ملهى أو كازينو على الشاطئ .. وإنما وجدتها ساعة الغروب واقفة عند محطة الأوتوبيس فى رشدى باشا وبيدها كتاب ..
     فلما بصرت بى مرت على شفتيها ابتسامة .. وظهر السرور فى عينيها .. فتقدمت إليها ووقفت بجانبها .. وسألتها :
     ـ أنازلة الإسكندرية ..؟
     ـ نعم .. لأشترى شيئا .. من محطة الرمل وارجع بالترام ..
     ـ أتسمحين بأن نجلس لحظات فى ماى فير .. وأوصلك بالسيارة .. ؟
     ـ شكرا .. فى وقت آخر .. وأنت ترى أن ملابسى لا تناسب ..
     ـ لابد أن يتغلب الطبع والعادات الشرقية .. برغم أنك فى مدرسة أجنبية ..
     ـ أننى لم أفكر فى هذا .. وأنت مخطىء .. فاعذرنى .. وسنتقابل فى وقت آخر .. واتركه للظروف ..
     ولم أقل لها شيئا .. وتناولت يدها الرخصة وأركبتها الأتوبيس ..
     ووجدتها بعد ذلك بيومين سائرة فى طريق الحرية ولم تشعر بى إلا وأنا واقف بجوارها بسيارتى .. وسلمت عليها .. ونزلت من السيارة .. لأدعوها للركوب معى ..
     فقالت :
     ـ اننى معتادة أن أتمشى لأتريض .. وهذا أحسن لصحتى .. ثم أنا لا أركب سيارة ملاكى ..
     ـ لا تجعلينى أسىء الظن بالمرأة المصرية .. وأتيقن أنه مهما يكن علمها وثقافتها ستظل جارية .. من رواسب القرون ..
     ـ أنك لا تفهم .. يا سيد كمال .. لا تفهم اطلاقا ..
     ـ أنك تخشين الناس .. ؟
     ـ لا .. إن هذا ما دار بخلدى قط ..
     ـ ماذا إذن .. ؟
     فصمتت ثم قالت فى صوت خافت وصوتها يرتعش ..
     ـ إنه مات فى حادث سيارة .. وكنت راكبة بجواره ..
     ونظرت إلى بوجه صامت وعينين ساكنتين .. بدأ يسبح فيهما الدمع .. ولعنت نفسى على حماقتى .. فقد أثرت أشجانها .. وسحبتها من يدها وأركبتها السيارة .. وبدلا من أن أذهب إلى البيت ملت إلى شارع البحر .. وبعد أن تريضنا قليلا .. دخلنا كازينو يشرف على البحر ..
     وجلسنا إلى مائدة قرب الخليج ... وطلبت لها عصير التفاح .. فأسرعت تقول :
     ـ لا .. أننى سأشرب بيرة ستاوت ..
     فطلبت لها زجاجة صغيرة .. ولنفسى كوبا من عصير الليمون ..
     فقالت :
     ـ وأنت ألا تشرب .. ؟
     ـ أشعر بالخجل وأنا أقول لا ..
     ـ لا تشرب .. ؟
     ـ أجل ..
     ـ هذا غريب من شاب فى هذا العصر ..
     ـ إن الإنسان يشرب الخمر لأنه تعس ولأنه يهرب من الحياة .. وأنا أواجهها الآن بكل أعصابى ..
     ـ أولم تشرب الخمر قط .. ؟
     ـ شربتها حتى أرتويت .. وحتى تيقنت من قتلها لروح الإنسان .. وجسده .. إن الإنسان مخلوق عظيم .. أبدع وأجمل الكائنات .. فلماذا نقتله ... ونلوث روحه ..؟ 
     ـ إن كلامك هذا لا يمنعنى من قتل نفسى .. أولا تدخن .. ؟
     وكانت قد أشلعت سيجارة ..
     ـ لا أدخن .. لأننى لا أقلد .. وأنت قلدت صاحباتك ..
     ـ إن زوجى كان يدخن .. اعطانى أول سيجارة ..
     وشعرت فى أعماقى بالاستياء .. لأنها تحدثنى فى أول لقاء لنا عن المرحوم زوجها .. ولكننى عذرتها .. إذ لابد أن يكون حبه قد تمكن من نفسها .. ولم تستطع الفكاك من أسره بعد .. ونظرت إليها وهى تدخن .. كأنها غانية فى ملهى .. وتشرب الخمر كأنها راقصة تفرغ أحزانها فى الكأس .. ولم أسألها عن شىء .. يحرك أشجانها .. وكنت أحدثها أحاديث مختلفة .. وأطرى دماثتها وجمالها ولين طباعها .. وكانت تنظر إلىَّ نظرات لينة متكسرة .. وتقول لى بعينها .. إننى أشكرك وأننى أستريح إليك .. واطمئن إلى مودتك ..
      وقالت :
     ـ أتسمح بأن أشرب .. زجاجة أخرى على حسابى ..
     وطلبت لها الزجاجة .. وقلت :
     ـ وهل أنت بخيلة إلى هذا الحد .. ؟
     ـ لا .. وإنما تكفى الزجاجة الأولى .. وبعد قليل سأعشيك ..
     ـ أتعشينى .. ؟  إن هذا لا يحدث حتى من فتاة أمريكية ..
     ـ ولكننى أنا المصرية سأعشيك ..
     ـ وأنا قبلت الدعوة .. بكل سرور ..
ـ شكرا ..
     ـ هل أنت مستريحة إلى عملك فى المدرسة .. أم ترينه مرهقا .. ؟ 
     ـ أننى أسعى إلى الارهاق .. لكى لا أجد الفراغ الذى أخلو فيه .. إلى نفسى .. إن نفسى تعذبنى ..
     ـ لماذا تنظرين للحياة هكذا .. بمثل هذا المنظار الأسود .. ؟  إن كل السيدات يموت أزواجهن .. ولا يقتلن أنفسهن حسرات مثلك .. إن الأيام كفيلة بمسح أحزان البشر ..
     فقالت بمرارة :
     ـ ولكنه ليس بزوج واحد .. أنهم ثلاثة .. ماتوا جميعا فى حوادث مروعة .. حل بهم نحسى .. مساكين ..
     ـ لماذا تعذبين نفسك بهذه الخرافة .. إنهم كانوا سيموتون هكذا .. لو تزوجوا بأيه امرأة أخرى ، هكذا أجلهم ..
     ـ لا تكلمنى بمنطق أرسطو .. اننى أعرف .. نفسى .. وأرجو أن تبتعد عنى .. حتى لا يصيبك النحس .. الأبدى ..
     ـ أتتكلم سيدة بمثل ثقافتك هذا الكلام .. ؟
     ـ إن الإيمان بالخرافة غريزى .. وأنا أنذرتك .. فابتعد ..
     وضحكت ..
     ـ لماذا تضحك .. ؟
     ـ سأجعلك تؤمنين بعكس ما تتصورين تماما .. وسنخرج غدا فى نزهة طويلة ..
     ولم تقل شيئا .. وأخذت تشرب فى صمت ..
     وعلى باب منزلها .. أمسكت بيدها وضغطت عليها .. فتركتها فى يدى ورأيت لأول مرة نور الحياة يلمع فى عينيها .. نور الأمل ..
     وأقسمت أن يظل هذا النور مضاء ..
***
     وفى الصباح الباكر .. نقرت على بابى .. وحملت إلىَّ بنفسها جميع جرائد الصباح .. وكان وجهها يفيض بالبشر .. وقد تزينت لأول مرة .. وتأنقت .. ولبست أجمل ثيابها ..
وبقيت معى حوالى ربع ساعة تتحدث وتضحك .. ولاحظت أنها ولدت من جديد .. عذراء ضاحكة كالوردة الجميلة ..
وانصرفت وهى تلوح لى بيدها ..
***
     وفى الأصيل .. أخذنا طريق سموحة الزراعى .. إلى البحيرة .. وكنت أود أن أصطاد بعض السمك .. وأتمتع بالهدوء والجمال فى تلك البقعة ..
     وتركنا السيارة فى منحدر بعيد عن الطريق .. وجلسنا على شاطئ البحيرة نصطاد وكان الهدوء يخيم والطبيعة ساكنة ..
     وقالت :
     ـ إذا اصطدنا شيئا .. سنتعشى به فى البيت .. حتى ولو كان سمكة صغيرة ..
     واصطدنا سمكة متوسطة .. وسرت بها كثيرا ..
     وعدنا إلى البيت .. وأخذت السمكة وشوتها سريعا ..
ووضعتها على مائدتى .. وجلسنا معا نأكل .. كأننا زوجان ..
***
   وفى اليوم التالى توغلنا بالسيارة حتى اقتربنا من العامرية ..
     وأوقفنا السيارة فى الصحراء .. وأمسكت بيدها .. ونظرى إلى السماء الصافية .. وإلى الصحراء الممتدة إلى مالا نهاية .. وسألتها :
     ـ ما أمنيتك فى هذه اللحظة .. ؟
     ـ أن نموت معا ..
     فنظرت إليها فى دهشة .. وكان وجهها ساكنا ..        
      واستطردت :
     ـ أن ندفع السيارة .. إلى هذا المنحدر .. وننتهى فى لحظة .. دون أن يشعر بنا إنسان .. لقد عشت ثلاثة أسابيع معك .. كأننى .. أحلق فى السماوات بجناحين .. وليس بعد هذا سعادة .. والحياة لا تعطى إلى النهاية.. وقبل أن تتحول عنا وتأخذ منا .. يجب أن ننتهى على طريقتنا .. ونختار النهاية ..
     ـ أمامك .. الكثير من الحياة والأمل ..
     ـ لا .. يجب أن ننتهى الآن .. عندما رأيتك لأول مرة وأنا أعطيك المصباح .. شعرت بقلبى ينتفض .. وبسيال كهربائى يسرى فى جسمى كله فيهزه ورأيت عينيك تبحثان فى أعماق عينى .. وكنت ألاحظك من النافذة .. ومن باب البيت .. وأقف الساعات الطوال أتأملك .. وأنت جالس وحدك .. فى حجرتك .. مستغرقا فى تأملاتك .. وأشعر بقوة مغناطيسية تجذبنى نحوك .. وظللت أقاوم .. وأقاوم .. وانا أرتعش حتى لمجرد سماع صوتك .. ولا أريد أن أقول لك أننى أحببتك .. لأن هذا ليس بحب .. ولكنه جنون .. وأنا أريد أن أموت الآن وتموت أنت معى .. لأننى لن أتركك لواحدة غيرى .. لن أتركك ..
ومسحت بيدى على جبينها ..
     وقلت لها فى همس :
     ـ سنعيش .. وستكونين سعيدة ولا داعى لهذه الأفكار ..
     وأخذنا الطريق إلى الإسكندرية .. وكانت الطريق خالية فأسرعت .. والشمس تميل إلى الغروب .. وكان الهواء يداعب شعرها .. ويمر على وجهها .. وكانت ملقية برأسها إلى الوراء .. صامته كأنها لم تستفق من حلمها اللذيذ ..
     وفجأة وأنا أسرع .. قفز غلام من تحت الجسر .. وظهر أمامى فى وسط الطريق .. فضغطت على الفرامل بكل قوتى .. وإنحرفت بالسيارة لأتجنب الإصطدام به ولم أشعر بنفسى إلا وأنا واقف بالسيارة على حافة البحيرة .. وعندما صرخت الفرامل طار الغلام .. أما نعمات فارتمت على صدرى .. ولما وجدتنى سليما أخذت تغمرنى بقبلاتها كالمجنونة .. وتمر بيديها على جسمى كله .. لتتأكد من سلامة كل عضو فيه .. وطوقتنى ..
     وقالت وهى تشهق بالبكاء :
     ـ أنزل وأمش .. أريد أن أراك ماشيا على رجليك .. أنزل
     ـ الحمد للّه .. لم يحدث شىء ..
     ـ أنزل .. وأمشى ..
     ونزلت .. ووقفت بجانب السيارة .. ونزلت هى وأخذت تنظر إلىَّ فى وله .. كأنها لا تصدق أننى سليم ولم يحدث شىء .. وركعت .. ودارت بذراعيها حول ساقى وأخذت تهزنى وهى تبكى ورأسها مرفوع إلى وجهى .. فانحنيت وطمأنتها ..
     وأصبحنا فى يوم الجمعة .. وكانت تعرف أننى راجع إلى القاهرة صباح السبت .. فأحسسنا معا بقرب الفراق .. وعرضت عليها ألا تذهب إلى المدرسة لنمضى النهار كله معا .. فقبلت مسرورة .. ومضينا النهار على الشاطئ فى مكان منعزل .. وفى الليل ذهبنا إلى المدينة لنتعشى ونستمع إلى الموسيقى فى اثنيوس .. ولم تشرب خمرا على العشاء وقالت لى أنها لن تضع الخمر فى فمها مادمنا حبيبين ، وكانت مسرورة لهذا القرار وتحدثنا عن المستقبل .. وعرفت أننى عائد إلى الإسكندرية بعد شهرين .. لأعيش معها ولا أتركها وحيدة قط ..
     ولما رجعنا إلى البيت قلت لها وأنا أضغط على يدها فى الظلام ..
     ـ إن هذه آخر ليلة لنا .. وأريد أن أودعك .. قبل سفرى ..
     ـ  كيف .. ؟  
     ـ سأنتظرك فى منزلى ..
     وأحمر وجهها ..
      وقالت :
     ـ أننى لا أستطيع أن أفعل ذلك .. فلماذا تطلب منى هذا الطلب .. ؟
     ــ لأننى أحبك ..
     ـ ولكن إذا رآنى .. إنسان .. ماذا يكون .. مصيرى .. إنك لست بمراهق .. هذا جنون ..
     ـ سأنتظرك .. ولن أنام حتى تأتى ..
     ـ لن أحضر ..
     وقالت هذا بغضب .. فتركتها ودخلت بيتى ودفعت الباب ورائى بعنف ..
***
     وحتى الساعة الثانية صباحا .. لم أخلع ملابسى ولم أذهب إلى الفراش .. وأخذت أروح وأجىء فى صالة البيت كالنمر المحبوس فى قفصه .. وكنت غاضبا وقلقا .. وأخذت ألعن الأقدار التى ألقت بهذه المرأة فى طريقى .. وثرت عليها ولو كانت معى فى تلك الساعة لسحقتها .. أو خنقتها .. فقد كنت فى حالة جنون مطبق ..
     وفى الساعة الرابعة سمعت الباب يفتح .. ورأيتها داخلة .. بخطى متثاقلة وجريت إليها وسلمت عليها ..
     وبقينا كذلك إلى الصباح ..
***
     وفى الصباح وقفت على الباب تودعنى وقالت :
     ـ كلمنى فى التليفون .. عندما تصل .. إلى استراحة شل .. وعندما تصل الهرم .. وعندما تصل .. إلى مصر الجديدة .. كلمنى سأظل بجانب التليفون طول اليوم ..
     كانت تخاف الأقدار ..
***
     ولم أكلمها .. فقد أصبت فى حادث تصادم وقع لسيارتى قبل أن أبلغ استراحة شل .. ونقلت إلى أقرب مستشفى .. وعندما عدت إلى رشدى أرسلت إليها برقية أنبئها باننى وصلت سالما ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة الجيل الجديد بالعدد 154 بتاريخ 6/ 12/ 1954   وأعيد نشرها فى كتاب " الجمال الحزين " سنة 1962
=================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق